سليمان وبلقيس عليه السلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
كان في جنوب بلاد العرب عند مجمع البحرين - بحر القلزم والمحيط الهندي- مملكة عظيمة الشأن تسمى مملكة سبأ ، تحكمها سيدة وافرة الذكاء تسمى بلقيس وكانت تعبد الشمس وتجمع في بلاطها ذوي الرأي من أهل العلم والسياسة تستشيرهم في سياسة الرعية وتدبير شئون المُلك.
وكانت بلقيس مغرمة بمظاهر الترف وكانت تقتني القصور العظيمة والأحجار الكريمة والمعادن النفيسة ، وكان لبلقيس على ربوة قصر فخم من المرمر والبلور وبجوار القصر كان هناك معبد تنفذ الشمس إليه من فتحة في أعلى قبّته فتسجد لها بلقيس ويسجد الشعب خلفها.
"وتفقّد الطيرفقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين..لأعذبنّه عذاباً شديداً أو لأذّبحنّه أو ليأتينّي بسلطان مبين..فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين"
يقال أن الطيور كانت تقوم بعمل غطاء فوق عرش سيدنا سليمان لتمنع عنه حرارة الشمس وفي نفس الوقت تقوم برفرفة أجنحتها مما يساعد على تلطيف الهواء .وفي يوم وجد سيدنا سليمان شعاع شمس يخترق هذا الغطاء فعرف أن أحد الطيور وهو الهدهد غائباً فسأل وهو استفهام يتبعه يقين :ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ، فسيدنا سليمان يستبعد أن يتخلف أحد عن القيام بواجبه وقرر أن يكون حازماً معه حتى لا تتكرر أو يكون قدوة لغيره فقال :لأعذبنه أو لأذبحنه ولكن علق أمر العقوبة على حجة الهدهد..ولم يغب الهدهد طويلاً فجاء إلى سيدنا سليمان وقال له بكل ثقة إنه يعرف أمراً لايعرفه هو وهذا ليس نقصاً في علم سيدنا سليمان ولكنه تكريم من الله له حيث سخر له من يخدمه .
"إني وجدت امرأة تملكهم وأُتيت من كل شئ ولها عرش عظيم..وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون..ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون..الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم"
كأن الهدهد يعرف قضية العقيدة وقضية الإيمان ، وأن الخلق لايجب أن يعبدوا إلا الله ولذلك عندما وجد بلقيس وشعبها يعبدون الشمس فاستعجب كيف لا يعبدون الله الذي يخرج الخبء في الأرض ؟ كيف لايعبدون المنعم عليهم بكل النعم ؟وهكذا قص الهدهد القصة على سيدنا سليمان فقال له : سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ،اذهب بكتابي هذا وأعطاه سيدنا سليمان رسالة إلى بلقيس وقال للهدهد انظر ماذا سيفعلون حينما يقرأون رسالتي..
(2)
"قالت يا أيها الملأ إني أُلقي إليّ كتاب كريم..إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم..ألا تعلو عليّ وأتوني مسلمين..قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعةً أمراً حتى تشهدون..قالوا نحن أولوا قوةٍ وأولوا بأسٍ شديدٍ والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين..قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون..وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بما يرجع المرسلون"
حمل الهدهد رسالة سيدنا سليمان إلى بلقيس وألقاها حيث كانت تجلس فلما قرأت بلقيس الرسالة قالت للحاضرين وهم أعيان القوم وأشرافهم والمستشارين وهي قد وصفت الرسالة بأنها كتاب كريم فهي كانت تسمع عن سيدنا سليمان وخاصة عندما قرأت في أول الرسالة بسم الله الرحمن الرحيم فهي تعرف أنه ملك وأنه نبي وكان الخطاب موجز فهويقول لهم لا تعلوا في الأرض ولا تتغطرسون وتزهون بما عندكم من مُلك وأتوني مسلمين.
فلما طلبت بلقيس مشورة القوم قالوا لها :نحن جاهزون للحرب وعندنا القوة والبأس والعدد والعدة ، والأمر لك إن أردت السلم فقولي لنا ماذا تريدين ونحن ننفذ ما تأمرين به .قالت بلقيس إن الذي جاء ليأخذ المُلك يريد أن يأخذ المالكين وينهب ما عندهم ويقوم حكمه على أنقاض الحكم السابق وفضلت بلقيس السلام مع سيدنا سليمان..
"وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون..فلما جاء سليمان قال أتمدونن بما فما أتان الله خيرمما أتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون..ارجع إليهم فلنأتيهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون"
لما تُرك الأمر لبلقيس لتفعل ما تراه مناسباً بدأ عقلها وفطنتها يعملان فقالت : إن كان ملكاً فسيطمع في خيرنا وإن كان نبياً فلن يأبه بهذا الخير ، فأنا سأرسل إليه بهدية وسنرى كيف يقابل حاملي الهدية ولابد أنها هدية تناسب سليمان وبلقيس معاص فهو ملك وهي ملكة ويجب أن تكون هدية ثمينة جداً.
ولكن لما وصلت الهدية سيدنا سليمان رفضها وقال لرسول بلقيس في لهجة حاسمة :أتمونني بمال ؟ إن الله أعطاني من كل شئ وأنتم من يفرح بهدية كهذه..ارجع إلى ملكتك بهديتها ولي تصرف آخر، لسوف أجمع الجنود التي لايمكن التغلب عليهم ونخرجكم من أرضكم أذلاء..وعاد الرسول إلى بلقيس بهذه الأخبار..
(3)
التفت سيدنا سليمان إلى من حوله بعد أن رفض قبول هدية بلقيس وكأن الله قد أعلمه أن القوم سيأتونه مسلمين ، فأراد أن يرسل من يذهب إلى سبأ ويأتيه بعرش بلقيس قبل أن يصل القوم إليه ، ولأن هذا الأمر صعب ويتطلب قدرات خاصة ، لذلك الذي رد عليه ليس إنساناً عادياً وأيضاً ليس الجن العادي ، إنما الذي تكلم عفريت من الجن..
"قال يا أيها الملأ أيكم يأتني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين..قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين..قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم"
إذا كان العفريت وهومكلف يستطيع أن يأتي بعرش بلقيس قبل أن يقوم سليمان عليه السلام من مكانه ، فالذي عنده علم من الكتاب أسرع منه ..بعض العلماء قال أنه آصف وهورجل صالح وآخرون قالوا الذي عنده علم الكتاب هو سيدنا سليمان نفسه فكأن العفريت قال أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك فرد عليه سليمان أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك مخاطباً العفريت..وجاء العرش وشكرسليمان ربه .
وقال سليمان عليه السلام نكروا لها عرشها فهو يريد أن يختبرها ، أتهتدي ؟فنقل العرش بهذه السرعة كان أمراًغير عادي.
ولما أتت بلقيس ورأت عرشها وسألها سيدنا سليمان : أهكذا عرشك ؟ قالت كأنه هو وإن كان هذا ردها فكأنها تقول إننا عرفنا قبل هذه الحادثة أنك يا سليمان نبي وأسلمنا ، وأن سيدنا سليمان بما صنع من أحداث صدها عما كانت تعبد من دون الله .
"قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لُجّة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت ربي إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين"
لما جاءت بلقيس لتدخل إلى القصر وجدت أرضه كأنها ماء ويسبح به سمك ، فرفعت ثيابها حتى لا تبتل فقال لها سيدنا سليمان : ادخلي فهذا صرح ممهد من الزجاج، فكان رد بلقيس :ربي إني ظلمت نفسي بسبب كفري في أول الأمر وأسلمت بلقيس ومعها شعب سبأ بأكمله.
يونس عليه السلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
هو يونس بن متى نبي الله عليه السلام وكان رجلاً تقياً صالحاً ، عاش في بلدة نينوى في العراق ، نظر إلى قومه وآلمه ما كانوا عليه من كفر وفساد وعبادة الأصنام . وقد بعثه الله إليهم بالنهي عن عبادة الأصنام والأمر بالتوبة إلى الله وتوحيده وكان عددهم مائة ألف أو يزيدون. وسُميت السورة باسم يونس لأن قومه هم الذين آمنوا قبل أن يروا مقدمات العذاب فأنجاهم الله سبحانه وتعالى
"فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس"
ومعناها أنه لو كانت هناك قرية آمنت قبل أن يأتيها العذاب لنجاها الله كما نجّى قوم يونس .
ظل يونس يدعو قومه ثلاثاً وثلاثين سنة ، فلم يؤمن به إلا رجلين وظل إيمانهما سراً ، ولكن سيدنا يونس لم ييأس وعاد لدعوة قومه مرات ومرات ولكنهم ظلوا على كفرهم وعارضوه معارضة شديدة فغضب واضطر إلى أن يترك بلده ويهجر قومه.
(2)
"وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين..فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين"
خرج سيدنا يونس مغاضباً أي أنه أغضبه غيره أي أغضبه قومه فغضب فصار مغاضباً ، ولكنه اعتقد أن الله سبحانه وتعالى لن يضيق عليه فأرض الله واسعة ، وظن أنه سيجد مكاناً آخر يكون أهله أكثر قبولاً للدعوة وأقل عداوة له ، ولكنه مرسل إلى هؤلاء وكان لابد أن يتحمل آذاهم وهو ظن أن الله لن يتعبه بل سيبعثه إلى قوم أكثر طاعة واستجابة من قومه .
عندما غضب سيدنا يونس عليه السلام غادر القرية واستقل سفينة ليذهب بها إلى بلد آخر ، وحينئذٍ رأى قوم يونس عواصف ورياح شديدة وانقلاباً في الطبيعة فذهبوا لذوي الرأي فيهم فقالوا لهم :إن هذه بداية عذاب سيصيبهم به الله سبحانه وتعالى لما فعلوه مع نبي الله يونس. وقالوا لهم : اذهبوا لترضوا يونس لأن الله تعالى هو الذي أرسله لكم ..فآمنوا به ليكشف الله عنكم الغمة ..فآمنوا وبدأوا يردون المظالم إلى أهلها حتى قيل أن الرجل كان يهدم جدار بيته لأن به حجراً سرقه من جاره ويعيد لجاره الحجر.
(3)
"وإن يونس لمن المرسلين..إذ أبق إلى الفلك المشحون..فساهم فكان من المدحضين..فالتقمه الحوت وهو مليم..فلولا أنه كان من المسبحين..للبث في بطنه إلى يوم يبعثون..فنبذناه بالعراء وهو سقيم..وأنبتنا عليه شجرة من يقطين"
عندما ركب سيدنا يونس السفينة وتلاعبت بها الأمواج ذعر الركاب وقالوا : إن بيننا إنسان مخطئ ولابد من إلقائه في البحر ليرفع الله غضبه عنا و لتنجو السفينة من الغرق ، واقترعوا فكانت القرعة من نصيب سيدنا يونس لثلاث مرات فألقوه في البحر .
جاء حوت من داخل البحر فالتقم سيدنا يونس داخله وأمر الله تعالى الحوت بألا يهضم سيدنا يونس وإنما يحافظ عليه داخل بطنه ، وبقى يونس عليه السلام يسبّح داخل بطن الحوت مستغفراً الله لما بدر منه من ترك قومه ، وظل يسبح حتى سمعت الملائكة تسبيحه فقالوا :ربنا نسمع صوت تسبيح ضعيف ولا نعرف مكانه ..وبقي يونس يسبح الله : أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين حتى استجاب الله لدعائه وأمر الله تعالى الحوت فاقترب من الشاطئ ولفظه .
كان جسد سيدنا يونس قد أصابه بعض الحروق من أثر افرازات معدة الحوت ومع حرارة الشمس كان يتألم فأنبت الله تعالى عليه شجرة هي يقطينةأو ما يعرف حالياً بقرع العسل وهي ذات أوراق كبيرة لتحميه من حرارة الشمس ، ثم أرسله الله مرة أخرى إلى قومه بعد أن آمنوا فأنجاهم الله من العذاب.
أيوب عليه السلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
أيوب كلمة ما تكاد تسمعها الأذن حتى يتمثل لسامعها الصبر الجميل في أعلى درجاته .
ولد لإسحاق بن إبراهيم عليهما السلام ولدان هما يعقوب وعيصو ..أما يعقوب فقد استوطن بأولاده أرض فلسطين وأما عيصو فقد اتجه هو وأولاده إلى شمال الشام ، ومن ذرية عيصو أتى رجل تقي صبور هو سيدنا أيوب.
كان سيدنا أيوب رجلاً غنياً بسط الله له في الرزق ورزقه الله كذلك نعمة أخرى هي نعمة الأولاد من البنين والبنات.
"واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب..اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب..ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب..وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب"
نادى ربه أي دعا أيوب عليه السلام ربه ، فقد أصاب سيدنا أيوب مرضاً واستمر معه عدة سنوات ، جعله يدعو ربه أن يكشف عنه ضره ، لأن الإنسان لا يتشجع على الله. والمرض الذي أصاب سيدنا أيوب في جلده فكان كما قالوا : الشيطان يحوم حوله ويقول له إن الله قد بعثك رسولاً ثم فعل بك هذا ( أي المرض) ثم تركك وهو يستطيع أن يشفيك ب(كن) .فيعذبه الألم الجلدي وهواجس الشيطان بوسوسته ، فنادى ربه ودعاه أن يقطع عن نفسه وسوسة الشيطان .
استجاب الله تعالى لأيوب حين ناداه وأمره بأن يضرب برجله الأرض لتخرج ماء يعالج نفسه بها .والله سبحانه وتعالى بيّن لسيدنا أيوب طريقة العلاج وهي الغسل والشراب ، فالمغتسل البارد للظاهر وهو البثور التي أصابت جلده من الخارج ، أما الشراب فينهي الأسباب التي جعلت البثور تظهر.
وقيل أن بعض الأهل عندما رأوا حالته الصحية ابتعدوا عنه ، فأعادهم الله إليه ومعهم آخرين وهم الذرية والأتباع وغيرهم.والله سبحانه وتعالى يبتلي العبد لأنه سبحانه يحب أن يسمع دعاءه .
(2)
وكان سيدنا أيوب أثناء مرضه تعوله زوجته ولم تتركه أبداً ، وقالوا أن الشيطان قد ذهب إلى زوجته وقال لها : اطلبي من أيوب أن يقول أنا شفاني الشيطان وسأشفيه على الفور ، ولأنها كانت تتمنى شفاء زوجها فقد ذهبت إلى سيدنا أيوب وقالت له : لقد جاءني خاطر بكذا ..فهي تعلم أنه لن ينفذ طلب الشيطان ، ولكن سيدنا أيوب قال لها :إنه من الشيطان وقد استمعتي إليه ثم تأتي لتقوليه لي ؟ والله الذي لا إله إلا هو لأجلدنك مائة جلده حين يشفيني ربي .
"وخذ بيدك ضغثاً واضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب"
الضغث هو الحزمة من الحشيش أو الحزمة من شماريخ النخل . لما قال الله تعالى في سورة (ص) فاضرب به ولا تحنث ، إذن يوجد يمين والله تعالى يريد أن يبر أيوب به ويضربها مائة ، فقال الله تعالى له :خذ حزمة من الحشائش فيها مائة عود واضربها بها ضربة واحدة فهذه تجعلك تبر في يمينك. نعم العبد إنه أواب أي العبد الذي صبر ورجع إلى ربه فخفف الله عنه حتى الألم الذي يصيب به الغير وهي زوجته ليبر بقسمه فلم يتركه يجلدها فتتألم ولكن الله تعالى خفف عنه بأن يضربها بحزمة الحشيش مرة واحدة.
زكريا ويحيى عليهما السلام
(1)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هو نبي الله زكريا بن برخيا ينتهي نسبه إلى سليمان بن داود عليهما السلام. ويحيى هو ابن سيدنا زكريا وهوسميّ الله .
زكريا عليه السلام هو الذي كفل مريم وقام على خدمتها ،وزكريا هو زوج خالة السيدة مريم ، وكان كلما دخل عليها في المحراب وجد عندها رزقاً لم يأت به هو فلما كان يسألها عنه تقول هو من عند الله ..
"كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب"
هنا تساءل زكريا عليه السلام : كيف فاتني هذا الأمر ؟ ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى :
"هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء"
هب لي من لدنك فهو يعني : هب لي من وراء أسبابك ..لأن الكل من الله ولكن الفرق حين يذهب الإنسان ليتعلم العلم مثلاً لمدة عشرين عاماً وبين إنسان أنعم الله عليه بموهبة ما .
"ذكر رحمت ربك عبده زكريا..إذ نادى ربه نداءً خفيا"
أي دعا زكريا عليه السلام ربه والنداء يكون بصوت مرتفع ولكنه نادى نداء خفي أي هامس لأن السر والجهر عند الحق سواء.
وزكريا في ندائه الخفي لله كان يطلب منه أن يعطيه ولداً وعلل الطلب بأنه بلغ من الكبر عتياً وأن امرأته عاقر فأسباب الخلق كأنها معطلة عنده ولذلك فلا ملجأ إلا إلى الله ..
"قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك ربي شقيا..وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقر فهب لي من لدنك وليا..يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربي رضيا"
فالأمر ليس شغفاً بالولد بل هو حرص على المنهج لأنه لم يأمن القوم الذين يأتون من بعده وهم مواليه من عمومته ، فهو يريد ولداً صالحاً يأمنه على حمل منهج الله من بعده..
(2)
"فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين"
لقد نادته الملائكة وهو في أروع لقاءاته مع ربه ، في حالة من الخشوع والخضوع وإقامة الصلاة ، فاستجاب الله لطلبه ، والبشارة هي الخبر السار لقد قال الله له سأعطيك وزيادة في العطاء سماه الله ب(يحيى). وهذا أول اسم وضعه الله تعالى لابن زكريا ولم يكن أحد قبل ذلك قد سمّي بيحيى ، وأنه سيعيش بمنهج الله وسيعمل الطاعات وهو مصدق ، وهو يأتي ليصدق بكلمة من الله فهو عليه السلام أول من آمن برسالة عيسى عليه السلام. وهو حصوراً أي ممنوعاً من كل ما حُرّم عليه وهو نبي أي قدوة في الإتباع .
"رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء"
إن زكريا وهو الطالب تعجب من الإستجابة فيتساءل : كيف يكون ذلك ؟ وهو لم يصدق البشرى من فرط سعادته فاراد أن يتأكد منها ، فأوحى الله إليه الأسئلة لأن الذي يكلمه هو الخالق عز وجل الذي قال له :
"هو عليّ هين وقد خلقتك من قبل ولم تكُ شيئا"
"فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين"
فالله سبحانه وتعالى وهب له غلاماً رغم تعطل الأسباب وفوق ذلك هو الذي أسماه يحيى ( وهي تسمية لها سراً فقد شاء الله أن يموت شهيداً حتى يظل حياً) وأصلح له زوجه أي جعلها صالحة للإنجاب ، ولذلك فعلى المسلم الذي يُبتلى أن يكثر من فعل الخيرات ويدعو الله سبحانه ويلح عليه في الدعاء.
ومعنى الخشوع هو الإطمئنان لمقادير الخالق في الخلق ثم الدعاء مع اليقين الكامل في قدرة الله على كل شئ .
"قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار"
طلب سيدنا زكريا من الله علامة على أن القول انتقل إلى فعل لأنه يريد أن يعيش في إطار الشكر لله من أول وجود النعمة.
ابنة عمران
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
في جبال حبرون قرب مدينة أورشليم في فلسطين ، كان يسكن عمران بن ماثان ، وهو من أشراف بني إسرائيل وأحبارهم ومن سلالة نبي الله داود .
كانت زوجته امرأة صالحة وقد حُرمت من نعمة الخلف ووهب الله لها نعمة الصبر والإيمان ، وكبر عمران وكبرت زوجته ولم ينجبا . كانت امرأة عمران تقية وورعة وكانت كثيرة الدعاء لله لكي يهب لها غلاماً تقر به عينها ويكون خليفة أبيه في إدارة بيت عبادتهم.
استجاب الله سبحانه وتعالى إلى دعاء امرأة عمران فحملت وعظمت ثقتها بالله فذهبت إلى بيت المقدس وقالت :
"إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم..فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم..فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب"
أي أنها تعطي طفلها بعد إنجابه لخدمة بيت المقدس وهذا يدل على حبها لربها جلّ وعلا ، وهي تطلب من ربها أن يتقبل هذا الطفل ،ومات عمران قبل أن تلد زوجته ، فلما جاءها المخاض فوضعت ،إذا الوليدة أنثى فخاب أملها لأن بني إسرائيل لم يعتادوا أن يهبوا لخدمة البيت إلا ذكوراً ، فرفعت رأسها للسماء ودعت ربها :رب إني وضعتها أنثى وأنت يا رب أعلم مني ، وليس الذكر كالأنثى أي أنها لا تصلح لخدمة البيت ولكن الكلام هو كلام الله تعالى أي أن الحق يقول لها لا تظني أن الذكر الذي كنت تتمنينه سيصل إلى مرتبة هذه الأنثى ، ولكن سيكون لها شأن عظيم .
وقالت امرأة عمران أنها سمت المولودة مريم أي العابدة فهي وإن فاتها خدمة البيت بحكم كونها أنثي فأمها تتمنى أن تكون البنت عابدة طائعة ، وأول ما يعترض العبودية والطاعة هو الشيطان لأجل ذلك أرادت امرأة عمران أن تحمي ابنتها من نزغات الشيطان ، وتقبلها الله تعالى قبول حسن أي أن الله تعالى أخذ ما قدمته امرأة عمران برضا وبشئ حسن.
أخذت أم مريم ابنتها وذهبت بها إلى بيت المقدس فوجدت ترحيباً من الأحبار ولم يعترض أحد في أن تترك المولودة في البيت في رعايتهم. واختلف الأحبار في أمر مريم وحاول كل منهم أن يحظى بشرف تربيتها وكفالتها ، فتقدم زكريا زوج خالتها وقال لهم : أنا أولى بها ، فزوجتي خالتها ، فاعترضوا وقالوا إنها منذورة للبيت ولذلك يجب إجراء قرعة على من يكفلها .فذهبوا للنهر واقترعوا برمي الأقلام في النهر مرة بمن سيجري قلمه عكس التيار ومرة من سيجري قلمه مع التيار ومرة ثالثة من سيطفو قلمه ، وفي المرات الثلاث كان زكريا عليه السلام هو الفائز.
(2)
أخذ زكريا مريم إلى داره واعتنت بها زوجته حتى صارت طفلة وحان وقت ذهابها إلى البيت الذي نذرت له .
عاشت مريم في بيت المقدس تتعلم فروض دينها وزكريا عليه السلام يزورها ويحضر لها ما تحتاج إليه من كسوة وطعام ، وكان كلما دخل زكريا على مريم وجد عندها طعام فيسألها من أين لك بهذا الطعام فتقول هو من عند الله .
وكان سيدنا زكريا وزوجته قد حُرما من الإنجاب ، فلما رأى زكريا وسمع من مريم عن أن الله يرزق من يشاء بغير حساب ،دعا زكريا ربه أن يهب له ولداً صالحاً فنادته الملائكة وهو يصلي بأن الله يبشره بغلام وقد أسماه الله يحيى.
(3)
"وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين..يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين"
"إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين..ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين..قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون"
اصطفى الله سبحانه وتعالى مريم اصطفائين أولهما أن الله اصطفاها بالإيمان والصلاح وهذا الإصطفاء لا يمنع من وجود آخرين معها ، أما الإصطفاء الثاني فجاء مسبوقاً بعلى فهي الوحيدة التي ستلد بدون رجل ،ومادام حدث منها هذا فلابد أن تتعرض للمطاردة والإضطهاد .
"وجعلنا ابن مريم وأمه آية وأويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين"
هيأ الله تعالى لمريم مكان تأوي إليه وفيه مقومات الحياة التي لا تنقطع ، و(معين) أي ماء معين يرى بالعين .
وقد بشّرت الملائكة مريم والبشارة لا تكون إلا للخبر المفرح ، فالله تعالى أمر كن فكان عيسى وهووجيهاً في الدنيا أي ذو وجاهة وشرف بنبوته وما أعطاه الله من آيات ومعجزات ، وفي الآخرة يكون مقرباً من الله .
كانت مريم قد تفرغت للقيم الدينية التي أنشئ من أجلها البيت المقدس حتى أنها هجرت أهلها وذهبت إلى مكان بعيد تخلو فيه عن الناس واكتفت بأنسها بالحق سبحانه واختارت مكاناً شرقياً أي شرق بيت المقدس لأنهم كانوا يتفاءلون بشروق الشمس.
تمثل سيدنا جبريل لمريم في صورة بشر وكان سوي التكوين فقالت له أعوذ بالرحمن منك أي حتى لو لم يكن رجل تقي فرحمة ربها تقيها منه ، قال لها سيدنا جبريل أنه ليس قادماً من تلقاء نفسه ولكن الأمر هبة من الله وغلام زكي أي مطهر وصاف ونقي ، فلما سألت مريم عن كيفية حدوث هذا وهي لم يمسها بشر قال لها هذه هي إرادة الله تعالى.
(4)
عندما بدأت آلام الولادة ، خافت مريم وذهبت إلى مكان بعيد عند جذع النخلة وهي معرّفة ب(ال) أي أنها نخلة معروفة ، وتمنت مريم الموت فهي في حيرة شديدة ، فسمعت صوت يناديها : يا مريم لا تحزني وهزي النخلة تتساقط عليكي تمرها فكلي واهدأي ،ولا تكلمي أحد من البشر وكان وليدها هوالذي كلمها ، ولذلك حين ذهبت به إلى قومها لم تكن خائفة وإنما مطمئنة بأن الله لن يخذلها . واتهمها قومها بأنها أتت شيئاً غير متداول وهو أن تلد بدون زواج وقالوا لها : أنها تتعمد الكذب وقولهم يا أخت هارون تقريع لها لأنهم عرفوها عابدة وأبوها لم يكن سيئاً ولا أمها ، ولما كثرت الأسئلة على السيدة مريم أشارت إلي وليدها ، فاستغرب القوم وقالوا لها : كيف نكلمه وهو مازال وليداً ولكنهم صُدموا حين رد عليهم عيسى عليه السلام : إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وأوصاني أن أكون باراً بوالدتي عطوفاً عليها ، وجعلني لين الجانب واسع الصدر ويوم ميلادي كان سلاماً ويوم موتي سلاماً لأنه سيأتون له بغية صلبه ولكن يشبه لهم أنهم صلبوه ، ويوم يبعث حياً لأن الله تعالى سيسأله أسئلة وسيرد عيسى أنه لم يقل إلا ما أمره به الله .
هذه قصة عيسى ابن مريم يخبرنا بها الله سبحانه وتعالى وهي قصة الحق ضد الباطل الذي سيشكّون فيه ويقولون فيه الأقاويل.
عيسى عليه السلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
لم يكد عيسى الوليد ينتهي من كلماته وهومازال في المهد حتى كانت وجوه الكهنة والأحبار ممتقعة وشاحبة..كانوا يشهدون معجزة تقع أمامهم..طفل يتكلم في المهد..طفل جاء بغير أب..طفل يقول أن الله قد أتاه الكتاب وجعله نبياً..هذا يعني أن سلطتهم في طريقها إلى الإنهيار ، ولن يستطيع أي منهم أن يبيع الغفران للناس أو يحكمهم عن طريق ادعائه أنه ظل السماء على الأرض.
تكتم رهبان اليهود قصة ميلاد المسيح وكلامه في المهد واتهموا مريم العذراء ببهتان عظيم رغم أنهم عاينوا بأنفسهم معجزة كلام ابنها في مهده...
رغم كل هذا تسربت أنباء قصة ميلاد عيسى إلى الحاكم الروماني هيرودوس ، وكان يحكم اليهود والفلسطينيين بقوة السيف والخوف وكثرة الجواسيس..ووصلت إليه أنباء عن الطفل الذي ولد بغير أب ويتكلم في المهد ، فعقد اجتماع مع كبار ضباطه وجواسيسه وأمرهم بمعرفة القصة كاملة فقد كان كل خوفه على سلطان روما الذي يمثله . وخوفاً من بطش الملك فرت السيدة مريم بوليدها من فلسطين إلى مصر حيث عاش عيسى عليه السلام طفولته وصباه ، ثم حدث أن مات هيرودوس فعادت السيدة مريم وعيسى عليه السلام إلى فلسطين ولكن هذه المرة إلى مدينة الناصرة وليس إلى أورشليم.
(2)
في هذه القرية نشأ الصبى عيسى وتعلم النجارة وتعلم القراءة والكتابة ، وكان أطفال القرية يقبلون عليه ليستمعوا إلى قصصه وكان عيسى عليه السلام يحاول بقصصه أن يغرس في نفوسهم المحبة ويعلمهم أصول الدين خالصة من البدع الشائعة ، واتخذ من التوراة أساساً لتعليمه ، فلقبه الناس بالمعلم الأمين.
كبر عيسى وبلغ سن الشباب وخرج يوماً من بيته في طريقه إلى المعبد اليهودي ، وكان اليوم السبت واليهود يخصصون هذا اليوم للعبادة ، ولكن ذهبت الحكمة من احترام يوم السبت وبقى يوم السبت نفسه ميداناً لتطبيق النصوص الحرفية الجامدة ، وتصور المحافظون على الشريعة أن الغرض الأسمى من وجودهم هو إقامة الأسوار التي تصون الشريعة ، ورغم ذلك نراهم على استعداد تام لابتداع الحيل التي تمكنهم من التخلص من أحكام الشريعة في الوقت المناسب والتي تتعارض مع مصالحهم الشخصية.
دخل عيسى عيه السلام المعبد وكلما أدار وجهه يجد الكهنة ، منهم اللاويون والفريسيون والصدوقيون بملابسهم المزركشة والمختلفة ، ولاحظ سيدنا عيسى أن عدد زوار الهيكل أقل من عدد الكهنة ورجال الدين ، وكان المعبد يمتلئ بالقرابين التي تذبح وتحرق وهناك آلاف من الفقراء يموتون جوعاً خارج المعبد ، فانصرف سيدنا عيسى وخرج من المدينة كلها إلى الجبل.
كان صدره يشتعل بغيرة مقدسة على الحق وبدأ يصلي وطالت وقفته وانهمرت دموعه ، وفي هذه الليلة نزل الوحي على عيسى ابن مريم وصدر له أمر الله تبارك وتعالى أن يبدأ دعوته...
(3)
بدأت رحلة عيسى بن مريم... رحلة الشقاء المليئة بالألم..
أراد عيسى عليه السلام أن يفهم قومه أن الشريعة الحقيقية هي التسامح والعفو ، فشريعة سيدنا موسى تقول من ضربك على خدك الأيمن فخذ حقك منه واضربه على خده الأيمن أما اليهود فيطبقون شريعة القصاص..إذا كان المضروب قادراً ، نسف بيت الضارب ولم يكتف بضربه على خده الأيمن ، أما إذا كان غير قادر ..ضربه على خده الأيمن وامتلأ قلبه بالحقد لأنه لم يدمر بيته.
جاءت شريعة عيسى عليه السلام نقضاً لما استحدثه الفريسيون والصدوقيون في شريعة موسى عليه السلام وإحياءً لحقيقة هذه الشريعة وأهدافها العليا.
وتميزت دعوة سيدنا عيسى من بدايتها إلى نهايتها بالشفافية والنقاء البالغين ، وهي دعوة تعتبر دستوراً للسلوك الفردي وليست نظاماً للحياة وقانوناً للمجتمع وتشريعات محددة .
(4)
"إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين"
تحدد الآيات السابقة خمس معجزات لسيدنا عيسى
الأولى : تكليمه للناس في المهد.
الثانية:تعليمه التوراة ..وكانت التوراة التي أنزلت على موسى قد اختفت تحت ركام التحويرات والتفسيرات المتعاقبة لفقهاء اليهود.
الثالثة:تصويره من الطين كهيئة الطير ثم النفخ فيه فيكون طيراً.
الرابعة:احياؤه الموتى.
الخامسة:ابراؤه الأكمه وهو من ولد أعمى والأبرص هو المريض بجلده ولا شفاء له.
وهناك معجزة سادسة يذكرها القرآن الكريم في سورة المائدة..
"إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين..قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين..قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين..قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين"
وكأن المعجزة السادسة هي إنزال المائدة من السماء بطلب الحواريين
وهناك معجزة سابعة وردت في سورة آل عمران ، وهي إخباره عليه السلام بأمور غائبة عن حسه ، فقد كان ينبئ صحابته وتلاميذه بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم..
"وانبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين"
هذه هي معجزاته السبع تسبقها معجزة ميلاده من غير أب....وتليها معجزة رفعه من الأرض حين حاولت السلطات الحاكمة صلبه..
الجزء الثاني الحواريون
عيسى والحواريون
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
بدأ سيدنا عيسى دعوته إلى الله مؤيداً بروح القدس ومعجزاته الباهرة..لم يقل عيسى عليه السلام في مسألة التوحيد أقل ولا أكثر مما قاله أنبياء الله جميعاً..
-اعبدوا الله ربي وربكم.
ولقد جاء القرآن بعد خمسمائة عام تقريباً من رفع عيسى عليه السلام ..ولعلم الله تعالى الأزلي بما سيصير إليه أمر المسيحية من اختلاف حول طبيعة عيسى حرص القرآن على أن يكشف عن حوار لم يقع بعد..
"وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب"
يفيد النص القرآني أن الدعوة المسيحية التي نزل بها عيسى عليه السلام كانت دعوة إلى التوحيد وتبرأته من كل ما قيل حول بنوته أو ألوهيته...أنزل الله عليه الإنجيل وهو كتاب مقدس جاء تصديقاً للتوراة وجاء إحياءً لشريعتها الأولى وليحل بعضاً من الذي حرمته التوراة.
اصطدم عيسى عليه السلام بتفسير اليهود الحرفي للشريعة واصطدم بالتيار المادي السائد في المجتمع وكذلك الثنائية التي يعامل بها الناس بعضهم بعضاً..ونذكر قصة المرأة الخاطئة التي أحضرها كهنة اليهود ليرجموها وقالوا أن شريعة موسى تقضي برجم الزانية ، واجتمع الناس كل منهم بيده حجر ليرجم المرأة ، وكان سيدنا عيسى يعلم أن الكهنة أشد ظلماً منها فوقف وقال : من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر ..فسكت الناس ولم يستطع أحد أن يرجمها..
(2)
استمر عيسى عليه السلام يدعو الناس إلى عبادة الله ، ولكنه عندما أعلن منهج الحق وجد أنصار الظلم وأنصار البغي غير مستعدين للإيمان بالله ، لذلك أحس منهم الكفر وأراد أن ينتدب جماعة ليعينوه على أمر دعوته ، والمعركة تحتاج إلى تضحية والتضحية تكون بالنفس والنفيس..فقال : من أنصاري إلى الله ، قال الحواريون نحن أنصار الله..
(الحواريون) مأخوذة من الحور وهو شدة البياض في العين ، وهم جماعة يقول القرطبي أنهم اثنى عشر رجلاً كانت وجوههم مشرقة بنور الإيمان..
"فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون"
قال الحواريون أولاً :آمنا بالله لأنه أمر غيبي في القلب ثم قالوا أسلمنا لأن الإسلام خضوع لمطلوبات الإيمان وأحكامه..ثم طلبوا من عيسى عليه السلام أن يشهد بأنهم مسلمون فهو قد بلغهم الأحكام وهم آمنوا وأسلموا وأطاعوا.
ويؤكد النص القرآني أن عيسى عليه السلام قد بشر برسول يأتي من بعده واسمه أحمد..
"وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين"
(3)
كان عيسى عليه السلام قد قال للحواريين عليكم بتقوى الله عزّ وجلّ ولا تسألوه آية ما دمتم أعلنتم إيمانكم ، يرى بعض العلماء أن الحواريين ما كانوا يجهلون قدرة الله تعالى ، وإنما صدر سؤالهم من منبع الحب لله ورغبتهم في شهود قدرته .
"إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزّل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين..قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين..قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين..قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين"
لقد قدم الحواريون بشريتهم فطلبوا من المائدة الأكل والطعام ، وقدم عيسى ابن مريم عليه السلام بصفة اختياره رسولاً القيم على الطعام فبدأ بنداء الألوهية أولاً ثم جاء بعدها نداء الربوبية (اللهم ربنا)..وأنزل الله المائدة ، وصار يوم نزول المائدة عيداً من أعياد الحواريين ثم أسدلت عليه أستار النسيان فلا نجد خبرها اليوم في أناجيلهم التي يعترفون بها .
(4)
مضى عيسى عليه السلام في دعوته حتى أدرك الشر أن عرشه مهدد بالزوال ، وبدأ اليهود يكيدون له ويدسون عند الرومان بشأنه واجتمع مجلس السنهدريم وهوالمجلس التشريعي الأعلى لليهود للتآمر على عيسى عليه السلام. وحين عجز اليهود عن حرب عيسى بدأ التفكير في قتله واتفق معهم واحد من تلاميذه ، ولكن كهنة اليهود لم يكن في سلطتهم اصدار حكم الإعدام ، وكان ذلك من سلطة الوالي الروماني . وتم احكام المؤامرة وتقرر القبض على عيسى وصلبه.
حدث القرآن الكريم أن الله تعالى لم يسمح لبني إسرائيل بقتل عيسى عليه السلام ولا صلبه ، وإنما نجاه الله من كفرهم ورفعه إليه ..
"وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه اهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً..بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيما"
إن عيسى عليه السلام أحس من بني إسرائيل الكفر والتبييت ومؤامرة القتل ، فطمأن الله عيسى ، فقتلوا شخصاً آخر شبهه الله لهم ولم يكن هو المسيح وصلبوه بعد ذلك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"الأنبياء أخوة ، دينهم واحد وأمهاتهم شتى وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم فليس بيني وبينه نبيّ"
وقد ورد في الأثر أن عيسى سوف ينزل في آخر الزمان .
إدريس عليه السلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
"واذكر في الكتاب إدريس إنّه كان نبياًّ..ورفعناه مكاناً علياً"
إدريس عليه السلام هو أول نبي بعد سيدنا آدم عليه السلام ، وكان صديقاً أي أنه يبالغ في تصديق كل ما يجئ به الحق ، لأن الكلام إذا كان موافقاً للحق ومن الحق فلا يتصادم معه شيطان في الدخول على العقل ، ويجعل الله له فرقاناً بحيث إذا سمع الحق يصدّقه.
والرفعه يقصد بها مكاناً في السماء أو رفعة معنوية أو رفعة حسيّة ..فهي رفعة من عند الله سبحانه وتعالى.
وسيدنا إدريس هو أول من علمه الله أن يخيط الملابس بعد أن كانوا يسترون أجسامهم بجلود الحيوانات ، وهو أول من علمه الله غزل الصوف ، وأول من استخدم النجوم في الإهتداء بها في ظلام الليل ، كما أنه أول من خط بالقلم . وهذه الأشياء تسمى (أوليات إدريس).
لوط عليه السلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
"كذبت قوم لوط المرسلين..إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون..إني لكم رسول أمين..فاتقوا الله وأطيعون"
بهذا الرفق والود دعا لوط قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
"ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم من أحد من العالمين..إنكم لتأتون الرجال شهوةً من دون النساء بل أنتم قومٌ مسرفون"
لم يقل الحق في هذه الآيات أخاهم لوط وذلك لأن سيدنا لوط لم يكن من هذا المكان ، فسيدنا لوط هو وسيدنا إبراهيم كانا من مدينة بعيدة ، ثم جاء سيدنا لوط إلى هذا المكان فراراً من الإضطهاد ، وعاش مع هؤلاء القوم فترة فعرفوا أخلاقه وصفاته وأنسوا به.
كان هؤلاء القوم يفعلون الفاحشة وهي المبالغة في القبح ، ولم يفعلها أحد من قبل ، وكانوا يتجاوزون الحد في البعد عن شريعة الله تعالى .وفي آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى
"ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون..أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون"
تبصرون أي تتعالمون بها وتجهرون وهذا يدل على أن الكل مجمع على هذه الفاحشة وفي آخر الآية يقول الله تعالى "بل أنتم قوم تجهلون" والجهل هنا ليس معناه أنهم لا يعلمون ولكن عكس العلم هو الأميّة ، أما الجاهل فعنده قضية مخالفة باطلة ، ولذلك يجب نزع القضية الباطلة ثم إدخال قضية الحق وهذا يحتاج لجهد كبير ، فالذي يتعب العالم هو الجاهل وليس الأمي.
ولم يؤمن مع سيدنا لوط أحد..لم يؤمن به إلا أهل بيته ..حتى أهل بيته لم يؤمنوا به جميعاً فقد كانت زوجته كافرة مثل زوجة سيدنا نوح..
"وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون..فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين".
قالوا الحل أن نخرج لوط وقومه من القرية لأنه جاء ليفسد علينا ما نفعله .
(2)
"ولما جاءت رسلنا لوطاً سئ بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب..وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات"
خرج الملائكة من عند سيدنا إبراهيم بعد أن بشّروه بإسحق ومن ورائه يعقوب ، وقالوا لسيدنا إبراهيم أنهم ذاهبون لإهلاك قوم لوط ، ولما وصلوا عند سيدنا لوط كان ضيق الصدر خائفاً عليهم من القوم وفسادهم وأسرعت امراته وأبلغت قومها عن ضيوف لوط فأتوا إلى داره ولكنه نصحهم وحاول أن يلمس جانب التقوى فيهم فقال لهم ..
"وقال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد"
ولكنهم كانوا منحرفين قلوبهم جامدة وعقولهم مريضة ورفضوا نصيحته . شعر سيدنا لوط بالألم وتمنى أن يأوي إلى مكان بعيد ، إلى ركن الله يحتمي فيه ، فلما بلغ الضيق ذروته تحرك ضيوفه ونهضوا وأفهموه أنهم ملائكة وأن قومه لن يصلوا إليه ، وأصدروا أوامرهم إلى لوط بأن يصحب أهله أثناء الليل ويخرج وسيسمعون أصواتاً مروعة تزلزل الجبال فلا يلتفت منهم أحد كي لا يصيبه ما يصيب القوم ، وأفهموه أن امرأته كافرة وستلتفت خلفها فيصيبها ما يصيب قومها..وقالوا له أن موعد العذاب في الصبح.
ماذا حدث بعد ذلك لقوم لوط ؟ يقول الحق تبارك وتعالى :
"وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين"
والمطر عادة يأتي بالخير ، ولكن هذا المطر لم يكن خيراً بل كان حجارة انهالت عليهم من السماء ..
"فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود..مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد"
أي قلبت رأساً على عقب ،ومنضود بمعنى منظمة ، فهي حجارة معدّة من قبل وتنتظر أمر ربها ، ومسومة أي معلمة كل حجر ينزل على صاحبه..وليحذر كل ظالم ، فإن عقوبة الله ليست ببعيدة عنه ولا هو بمنأى عنها.
شعيب عليه السلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
يعتقد كثير من الناس أن الدين مجموعة من القيم الأخلاقية ..وهذا اعتقاد خاطئ ، إن الدين في حقيقته الأولى أسلوب للحياة والتعامل. ولقد أبرزت قصة سيدنا شعيب هذا المعنى بشكل واضح..
"وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط..ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين..بقيّت الله خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ"
ومدين هو اسم قبيلة سكنت في هذه المنطقة ، وكان عيب آل مدين هو عدم عبادة الله وحده ، وكذلك كانت بينهم خسيسة التطفيف في الميزان ، لذلك جاء سيدنا شعيب إلى قومه يطلب منهم أن يعبدوا الله وألا ينقصوا المكيال والميزان ، ويقول لهم إني أراكم بخير أي أنكم لديكم ما يكفيكم من مال لحياتكم ، وما يغنيكم من سرقة غيركم ، ويقول لهم إني أخاف عليكم عذاب الآخرة الذي لن يفلت منه أحد ، ثم يكرر سيدنا شعيب طلبه مرة أخرى ويقول لهم لا تبخسوا الناس أشياءهم ، والبخس هو الضرر بالنقص أو إنقاص القيمة المعنوية للشئ ، فالإنسان مطالب بعمارة الأرض وإصلاحها ، وأقل الإصلاح أن تترك الصالح على صلاحه ، فإن استطعت أن ترقى به فافعل.
وينبههم سيدنا شعيب بأن الله رقيب عليهم ، ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً دون أن يراهم ، وأنه هو لا يستطيع أن يحافظ عليهم من النار ولا يملك لهم شيئاً وليس حفيظاً عليهم ولا حارساً لهم.
فماذا كان رد قومه ؟
"قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد"
وكلام قوم شعيب هنا على شكل تهكم ساخرين ، وخصوا الصلاة بالإنكار دون سائر أحكام النبوة التي دعاهم إليها لأنه كان كثير الصلاة معروفاً بذلك ، وكان رد سيدنا شعيب..
"قال يا قوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب..ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد..واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود"
قال لهم سيدنا شعيب : إن كنت على يقين وحجة ومنهج صادق من ربي فأعطاني الخير كله من علم ورزقني ، وقال لهم لن تجدوني أفعل ما أنهاكم عن فعله أبداً ، وأنا ما أريد إلا الإصلاح ..صلاح مجتمعكم وصلاح أموركم بقدر استطاعتي والله يوفقني لأني أخلصت النية لله تعالى وتوكلت عليه وليس على أحد غيره وإليه مرجعكم جميعاً. ثم يقول لهم سيدنا شعيب :لا تجعلوا عداوتكم لي واختلافكم معي تجعلكم تصرون على ما أنتم عليه من كفر فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط قريبون منكم مكاناً وزماناً ، ويطلب منهم أن يستغفروا ربهم فإن باب التوبة مفتوح والله تبارك وتعالى رحيم ودود لايرد من يقف ببابه ، رحمته سبقت عذابه ومغفرته تسع الذوب جميعاً..
(2)
"قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز..قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهرياً إن ربي بما تعملون محيط..ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب"
عندما طلب شعيب عليه السلام من قومه أن يستغفروا ربهم ويتوبوا إليه قالوا له : نحن لا نفهم ما تقوله والحقيقة أنهم لا يريدون أن يفهموا ، ولولا ضعفك وأنك لا تتحمل الوقوف أمامنا ، ولولا أهلك لقتلناك رجماً بالحجارة فليس لك عزة عندنا وذلك علينا هين . وذكرهم سيدنا شعيب بمن هو أقوى منهم ..تخافون أهلي وهم أفراد وتمتنعون عن إيذائي ولا تخافون الله القادر أن يهلككم ولم تحسبوا له حساب ولم تخشوه ، ثم يلفتهم إلى أن الحق سبحانه وتعالى يعلم كل ما يفعلونه ظاهراً وباطناً.
وبدأ سيدنا شعيب يهددهم ويقول لهم :اعملوا أنتم قدر ما تستطيع الدنيا أن تعطيكم بأسبابها وأما أنا فسأعمل على إبلاغ منهج الله ولن أسكت عن الدعوة وسوف تعلمون قريباً من يأتيه العذاب والخزي في الدنيا والآخرة ، ومن سيكون له النصر.
"قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين..قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد أن نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما."
قال سادة القوم الذين يقفون أمام كل دعوة حق لأنها ستسلبهم الميزات التي يتمتعون بها من أكل حقوق الناس قالوا أنهم سيخرجون شعيب ومن آمن معهم من المكان الذي تتوافر فيه متطلبات الحياة ، أو يعودوا كفار ، رد شعيب عليه السلام : أنهم لو عادوا إلى ملة الكفر يكونوا قد افتروا الكذب لأنهم يعرفون حقيقة الإيمان ، وأنهم قد اختاروا جانب الحق فنجاهم الله تعالى.
(3)
ومضى كل جانب يرتقب ..شعيب والذين آمنوا معه يرتقبون نزول العذاب بالكافرين ، والذين كفروا ينتظرون الفرصة المواتية ليقضوا على شعيب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
كان في جنوب بلاد العرب عند مجمع البحرين - بحر القلزم والمحيط الهندي- مملكة عظيمة الشأن تسمى مملكة سبأ ، تحكمها سيدة وافرة الذكاء تسمى بلقيس وكانت تعبد الشمس وتجمع في بلاطها ذوي الرأي من أهل العلم والسياسة تستشيرهم في سياسة الرعية وتدبير شئون المُلك.
وكانت بلقيس مغرمة بمظاهر الترف وكانت تقتني القصور العظيمة والأحجار الكريمة والمعادن النفيسة ، وكان لبلقيس على ربوة قصر فخم من المرمر والبلور وبجوار القصر كان هناك معبد تنفذ الشمس إليه من فتحة في أعلى قبّته فتسجد لها بلقيس ويسجد الشعب خلفها.
"وتفقّد الطيرفقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين..لأعذبنّه عذاباً شديداً أو لأذّبحنّه أو ليأتينّي بسلطان مبين..فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين"
يقال أن الطيور كانت تقوم بعمل غطاء فوق عرش سيدنا سليمان لتمنع عنه حرارة الشمس وفي نفس الوقت تقوم برفرفة أجنحتها مما يساعد على تلطيف الهواء .وفي يوم وجد سيدنا سليمان شعاع شمس يخترق هذا الغطاء فعرف أن أحد الطيور وهو الهدهد غائباً فسأل وهو استفهام يتبعه يقين :ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ، فسيدنا سليمان يستبعد أن يتخلف أحد عن القيام بواجبه وقرر أن يكون حازماً معه حتى لا تتكرر أو يكون قدوة لغيره فقال :لأعذبنه أو لأذبحنه ولكن علق أمر العقوبة على حجة الهدهد..ولم يغب الهدهد طويلاً فجاء إلى سيدنا سليمان وقال له بكل ثقة إنه يعرف أمراً لايعرفه هو وهذا ليس نقصاً في علم سيدنا سليمان ولكنه تكريم من الله له حيث سخر له من يخدمه .
"إني وجدت امرأة تملكهم وأُتيت من كل شئ ولها عرش عظيم..وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون..ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون..الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم"
كأن الهدهد يعرف قضية العقيدة وقضية الإيمان ، وأن الخلق لايجب أن يعبدوا إلا الله ولذلك عندما وجد بلقيس وشعبها يعبدون الشمس فاستعجب كيف لا يعبدون الله الذي يخرج الخبء في الأرض ؟ كيف لايعبدون المنعم عليهم بكل النعم ؟وهكذا قص الهدهد القصة على سيدنا سليمان فقال له : سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ،اذهب بكتابي هذا وأعطاه سيدنا سليمان رسالة إلى بلقيس وقال للهدهد انظر ماذا سيفعلون حينما يقرأون رسالتي..
(2)
"قالت يا أيها الملأ إني أُلقي إليّ كتاب كريم..إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم..ألا تعلو عليّ وأتوني مسلمين..قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعةً أمراً حتى تشهدون..قالوا نحن أولوا قوةٍ وأولوا بأسٍ شديدٍ والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين..قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون..وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بما يرجع المرسلون"
حمل الهدهد رسالة سيدنا سليمان إلى بلقيس وألقاها حيث كانت تجلس فلما قرأت بلقيس الرسالة قالت للحاضرين وهم أعيان القوم وأشرافهم والمستشارين وهي قد وصفت الرسالة بأنها كتاب كريم فهي كانت تسمع عن سيدنا سليمان وخاصة عندما قرأت في أول الرسالة بسم الله الرحمن الرحيم فهي تعرف أنه ملك وأنه نبي وكان الخطاب موجز فهويقول لهم لا تعلوا في الأرض ولا تتغطرسون وتزهون بما عندكم من مُلك وأتوني مسلمين.
فلما طلبت بلقيس مشورة القوم قالوا لها :نحن جاهزون للحرب وعندنا القوة والبأس والعدد والعدة ، والأمر لك إن أردت السلم فقولي لنا ماذا تريدين ونحن ننفذ ما تأمرين به .قالت بلقيس إن الذي جاء ليأخذ المُلك يريد أن يأخذ المالكين وينهب ما عندهم ويقوم حكمه على أنقاض الحكم السابق وفضلت بلقيس السلام مع سيدنا سليمان..
"وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون..فلما جاء سليمان قال أتمدونن بما فما أتان الله خيرمما أتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون..ارجع إليهم فلنأتيهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون"
لما تُرك الأمر لبلقيس لتفعل ما تراه مناسباً بدأ عقلها وفطنتها يعملان فقالت : إن كان ملكاً فسيطمع في خيرنا وإن كان نبياً فلن يأبه بهذا الخير ، فأنا سأرسل إليه بهدية وسنرى كيف يقابل حاملي الهدية ولابد أنها هدية تناسب سليمان وبلقيس معاص فهو ملك وهي ملكة ويجب أن تكون هدية ثمينة جداً.
ولكن لما وصلت الهدية سيدنا سليمان رفضها وقال لرسول بلقيس في لهجة حاسمة :أتمونني بمال ؟ إن الله أعطاني من كل شئ وأنتم من يفرح بهدية كهذه..ارجع إلى ملكتك بهديتها ولي تصرف آخر، لسوف أجمع الجنود التي لايمكن التغلب عليهم ونخرجكم من أرضكم أذلاء..وعاد الرسول إلى بلقيس بهذه الأخبار..
(3)
التفت سيدنا سليمان إلى من حوله بعد أن رفض قبول هدية بلقيس وكأن الله قد أعلمه أن القوم سيأتونه مسلمين ، فأراد أن يرسل من يذهب إلى سبأ ويأتيه بعرش بلقيس قبل أن يصل القوم إليه ، ولأن هذا الأمر صعب ويتطلب قدرات خاصة ، لذلك الذي رد عليه ليس إنساناً عادياً وأيضاً ليس الجن العادي ، إنما الذي تكلم عفريت من الجن..
"قال يا أيها الملأ أيكم يأتني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين..قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين..قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم"
إذا كان العفريت وهومكلف يستطيع أن يأتي بعرش بلقيس قبل أن يقوم سليمان عليه السلام من مكانه ، فالذي عنده علم من الكتاب أسرع منه ..بعض العلماء قال أنه آصف وهورجل صالح وآخرون قالوا الذي عنده علم الكتاب هو سيدنا سليمان نفسه فكأن العفريت قال أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك فرد عليه سليمان أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك مخاطباً العفريت..وجاء العرش وشكرسليمان ربه .
وقال سليمان عليه السلام نكروا لها عرشها فهو يريد أن يختبرها ، أتهتدي ؟فنقل العرش بهذه السرعة كان أمراًغير عادي.
ولما أتت بلقيس ورأت عرشها وسألها سيدنا سليمان : أهكذا عرشك ؟ قالت كأنه هو وإن كان هذا ردها فكأنها تقول إننا عرفنا قبل هذه الحادثة أنك يا سليمان نبي وأسلمنا ، وأن سيدنا سليمان بما صنع من أحداث صدها عما كانت تعبد من دون الله .
"قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لُجّة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت ربي إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين"
لما جاءت بلقيس لتدخل إلى القصر وجدت أرضه كأنها ماء ويسبح به سمك ، فرفعت ثيابها حتى لا تبتل فقال لها سيدنا سليمان : ادخلي فهذا صرح ممهد من الزجاج، فكان رد بلقيس :ربي إني ظلمت نفسي بسبب كفري في أول الأمر وأسلمت بلقيس ومعها شعب سبأ بأكمله.
يونس عليه السلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
هو يونس بن متى نبي الله عليه السلام وكان رجلاً تقياً صالحاً ، عاش في بلدة نينوى في العراق ، نظر إلى قومه وآلمه ما كانوا عليه من كفر وفساد وعبادة الأصنام . وقد بعثه الله إليهم بالنهي عن عبادة الأصنام والأمر بالتوبة إلى الله وتوحيده وكان عددهم مائة ألف أو يزيدون. وسُميت السورة باسم يونس لأن قومه هم الذين آمنوا قبل أن يروا مقدمات العذاب فأنجاهم الله سبحانه وتعالى
"فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس"
ومعناها أنه لو كانت هناك قرية آمنت قبل أن يأتيها العذاب لنجاها الله كما نجّى قوم يونس .
ظل يونس يدعو قومه ثلاثاً وثلاثين سنة ، فلم يؤمن به إلا رجلين وظل إيمانهما سراً ، ولكن سيدنا يونس لم ييأس وعاد لدعوة قومه مرات ومرات ولكنهم ظلوا على كفرهم وعارضوه معارضة شديدة فغضب واضطر إلى أن يترك بلده ويهجر قومه.
(2)
"وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين..فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين"
خرج سيدنا يونس مغاضباً أي أنه أغضبه غيره أي أغضبه قومه فغضب فصار مغاضباً ، ولكنه اعتقد أن الله سبحانه وتعالى لن يضيق عليه فأرض الله واسعة ، وظن أنه سيجد مكاناً آخر يكون أهله أكثر قبولاً للدعوة وأقل عداوة له ، ولكنه مرسل إلى هؤلاء وكان لابد أن يتحمل آذاهم وهو ظن أن الله لن يتعبه بل سيبعثه إلى قوم أكثر طاعة واستجابة من قومه .
عندما غضب سيدنا يونس عليه السلام غادر القرية واستقل سفينة ليذهب بها إلى بلد آخر ، وحينئذٍ رأى قوم يونس عواصف ورياح شديدة وانقلاباً في الطبيعة فذهبوا لذوي الرأي فيهم فقالوا لهم :إن هذه بداية عذاب سيصيبهم به الله سبحانه وتعالى لما فعلوه مع نبي الله يونس. وقالوا لهم : اذهبوا لترضوا يونس لأن الله تعالى هو الذي أرسله لكم ..فآمنوا به ليكشف الله عنكم الغمة ..فآمنوا وبدأوا يردون المظالم إلى أهلها حتى قيل أن الرجل كان يهدم جدار بيته لأن به حجراً سرقه من جاره ويعيد لجاره الحجر.
(3)
"وإن يونس لمن المرسلين..إذ أبق إلى الفلك المشحون..فساهم فكان من المدحضين..فالتقمه الحوت وهو مليم..فلولا أنه كان من المسبحين..للبث في بطنه إلى يوم يبعثون..فنبذناه بالعراء وهو سقيم..وأنبتنا عليه شجرة من يقطين"
عندما ركب سيدنا يونس السفينة وتلاعبت بها الأمواج ذعر الركاب وقالوا : إن بيننا إنسان مخطئ ولابد من إلقائه في البحر ليرفع الله غضبه عنا و لتنجو السفينة من الغرق ، واقترعوا فكانت القرعة من نصيب سيدنا يونس لثلاث مرات فألقوه في البحر .
جاء حوت من داخل البحر فالتقم سيدنا يونس داخله وأمر الله تعالى الحوت بألا يهضم سيدنا يونس وإنما يحافظ عليه داخل بطنه ، وبقى يونس عليه السلام يسبّح داخل بطن الحوت مستغفراً الله لما بدر منه من ترك قومه ، وظل يسبح حتى سمعت الملائكة تسبيحه فقالوا :ربنا نسمع صوت تسبيح ضعيف ولا نعرف مكانه ..وبقي يونس يسبح الله : أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين حتى استجاب الله لدعائه وأمر الله تعالى الحوت فاقترب من الشاطئ ولفظه .
كان جسد سيدنا يونس قد أصابه بعض الحروق من أثر افرازات معدة الحوت ومع حرارة الشمس كان يتألم فأنبت الله تعالى عليه شجرة هي يقطينةأو ما يعرف حالياً بقرع العسل وهي ذات أوراق كبيرة لتحميه من حرارة الشمس ، ثم أرسله الله مرة أخرى إلى قومه بعد أن آمنوا فأنجاهم الله من العذاب.
أيوب عليه السلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
أيوب كلمة ما تكاد تسمعها الأذن حتى يتمثل لسامعها الصبر الجميل في أعلى درجاته .
ولد لإسحاق بن إبراهيم عليهما السلام ولدان هما يعقوب وعيصو ..أما يعقوب فقد استوطن بأولاده أرض فلسطين وأما عيصو فقد اتجه هو وأولاده إلى شمال الشام ، ومن ذرية عيصو أتى رجل تقي صبور هو سيدنا أيوب.
كان سيدنا أيوب رجلاً غنياً بسط الله له في الرزق ورزقه الله كذلك نعمة أخرى هي نعمة الأولاد من البنين والبنات.
"واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب..اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب..ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب..وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب"
نادى ربه أي دعا أيوب عليه السلام ربه ، فقد أصاب سيدنا أيوب مرضاً واستمر معه عدة سنوات ، جعله يدعو ربه أن يكشف عنه ضره ، لأن الإنسان لا يتشجع على الله. والمرض الذي أصاب سيدنا أيوب في جلده فكان كما قالوا : الشيطان يحوم حوله ويقول له إن الله قد بعثك رسولاً ثم فعل بك هذا ( أي المرض) ثم تركك وهو يستطيع أن يشفيك ب(كن) .فيعذبه الألم الجلدي وهواجس الشيطان بوسوسته ، فنادى ربه ودعاه أن يقطع عن نفسه وسوسة الشيطان .
استجاب الله تعالى لأيوب حين ناداه وأمره بأن يضرب برجله الأرض لتخرج ماء يعالج نفسه بها .والله سبحانه وتعالى بيّن لسيدنا أيوب طريقة العلاج وهي الغسل والشراب ، فالمغتسل البارد للظاهر وهو البثور التي أصابت جلده من الخارج ، أما الشراب فينهي الأسباب التي جعلت البثور تظهر.
وقيل أن بعض الأهل عندما رأوا حالته الصحية ابتعدوا عنه ، فأعادهم الله إليه ومعهم آخرين وهم الذرية والأتباع وغيرهم.والله سبحانه وتعالى يبتلي العبد لأنه سبحانه يحب أن يسمع دعاءه .
(2)
وكان سيدنا أيوب أثناء مرضه تعوله زوجته ولم تتركه أبداً ، وقالوا أن الشيطان قد ذهب إلى زوجته وقال لها : اطلبي من أيوب أن يقول أنا شفاني الشيطان وسأشفيه على الفور ، ولأنها كانت تتمنى شفاء زوجها فقد ذهبت إلى سيدنا أيوب وقالت له : لقد جاءني خاطر بكذا ..فهي تعلم أنه لن ينفذ طلب الشيطان ، ولكن سيدنا أيوب قال لها :إنه من الشيطان وقد استمعتي إليه ثم تأتي لتقوليه لي ؟ والله الذي لا إله إلا هو لأجلدنك مائة جلده حين يشفيني ربي .
"وخذ بيدك ضغثاً واضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب"
الضغث هو الحزمة من الحشيش أو الحزمة من شماريخ النخل . لما قال الله تعالى في سورة (ص) فاضرب به ولا تحنث ، إذن يوجد يمين والله تعالى يريد أن يبر أيوب به ويضربها مائة ، فقال الله تعالى له :خذ حزمة من الحشائش فيها مائة عود واضربها بها ضربة واحدة فهذه تجعلك تبر في يمينك. نعم العبد إنه أواب أي العبد الذي صبر ورجع إلى ربه فخفف الله عنه حتى الألم الذي يصيب به الغير وهي زوجته ليبر بقسمه فلم يتركه يجلدها فتتألم ولكن الله تعالى خفف عنه بأن يضربها بحزمة الحشيش مرة واحدة.
زكريا ويحيى عليهما السلام
(1)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هو نبي الله زكريا بن برخيا ينتهي نسبه إلى سليمان بن داود عليهما السلام. ويحيى هو ابن سيدنا زكريا وهوسميّ الله .
زكريا عليه السلام هو الذي كفل مريم وقام على خدمتها ،وزكريا هو زوج خالة السيدة مريم ، وكان كلما دخل عليها في المحراب وجد عندها رزقاً لم يأت به هو فلما كان يسألها عنه تقول هو من عند الله ..
"كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب"
هنا تساءل زكريا عليه السلام : كيف فاتني هذا الأمر ؟ ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى :
"هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء"
هب لي من لدنك فهو يعني : هب لي من وراء أسبابك ..لأن الكل من الله ولكن الفرق حين يذهب الإنسان ليتعلم العلم مثلاً لمدة عشرين عاماً وبين إنسان أنعم الله عليه بموهبة ما .
"ذكر رحمت ربك عبده زكريا..إذ نادى ربه نداءً خفيا"
أي دعا زكريا عليه السلام ربه والنداء يكون بصوت مرتفع ولكنه نادى نداء خفي أي هامس لأن السر والجهر عند الحق سواء.
وزكريا في ندائه الخفي لله كان يطلب منه أن يعطيه ولداً وعلل الطلب بأنه بلغ من الكبر عتياً وأن امرأته عاقر فأسباب الخلق كأنها معطلة عنده ولذلك فلا ملجأ إلا إلى الله ..
"قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك ربي شقيا..وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقر فهب لي من لدنك وليا..يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربي رضيا"
فالأمر ليس شغفاً بالولد بل هو حرص على المنهج لأنه لم يأمن القوم الذين يأتون من بعده وهم مواليه من عمومته ، فهو يريد ولداً صالحاً يأمنه على حمل منهج الله من بعده..
(2)
"فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين"
لقد نادته الملائكة وهو في أروع لقاءاته مع ربه ، في حالة من الخشوع والخضوع وإقامة الصلاة ، فاستجاب الله لطلبه ، والبشارة هي الخبر السار لقد قال الله له سأعطيك وزيادة في العطاء سماه الله ب(يحيى). وهذا أول اسم وضعه الله تعالى لابن زكريا ولم يكن أحد قبل ذلك قد سمّي بيحيى ، وأنه سيعيش بمنهج الله وسيعمل الطاعات وهو مصدق ، وهو يأتي ليصدق بكلمة من الله فهو عليه السلام أول من آمن برسالة عيسى عليه السلام. وهو حصوراً أي ممنوعاً من كل ما حُرّم عليه وهو نبي أي قدوة في الإتباع .
"رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء"
إن زكريا وهو الطالب تعجب من الإستجابة فيتساءل : كيف يكون ذلك ؟ وهو لم يصدق البشرى من فرط سعادته فاراد أن يتأكد منها ، فأوحى الله إليه الأسئلة لأن الذي يكلمه هو الخالق عز وجل الذي قال له :
"هو عليّ هين وقد خلقتك من قبل ولم تكُ شيئا"
"فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين"
فالله سبحانه وتعالى وهب له غلاماً رغم تعطل الأسباب وفوق ذلك هو الذي أسماه يحيى ( وهي تسمية لها سراً فقد شاء الله أن يموت شهيداً حتى يظل حياً) وأصلح له زوجه أي جعلها صالحة للإنجاب ، ولذلك فعلى المسلم الذي يُبتلى أن يكثر من فعل الخيرات ويدعو الله سبحانه ويلح عليه في الدعاء.
ومعنى الخشوع هو الإطمئنان لمقادير الخالق في الخلق ثم الدعاء مع اليقين الكامل في قدرة الله على كل شئ .
"قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار"
طلب سيدنا زكريا من الله علامة على أن القول انتقل إلى فعل لأنه يريد أن يعيش في إطار الشكر لله من أول وجود النعمة.
ابنة عمران
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
في جبال حبرون قرب مدينة أورشليم في فلسطين ، كان يسكن عمران بن ماثان ، وهو من أشراف بني إسرائيل وأحبارهم ومن سلالة نبي الله داود .
كانت زوجته امرأة صالحة وقد حُرمت من نعمة الخلف ووهب الله لها نعمة الصبر والإيمان ، وكبر عمران وكبرت زوجته ولم ينجبا . كانت امرأة عمران تقية وورعة وكانت كثيرة الدعاء لله لكي يهب لها غلاماً تقر به عينها ويكون خليفة أبيه في إدارة بيت عبادتهم.
استجاب الله سبحانه وتعالى إلى دعاء امرأة عمران فحملت وعظمت ثقتها بالله فذهبت إلى بيت المقدس وقالت :
"إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم..فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم..فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب"
أي أنها تعطي طفلها بعد إنجابه لخدمة بيت المقدس وهذا يدل على حبها لربها جلّ وعلا ، وهي تطلب من ربها أن يتقبل هذا الطفل ،ومات عمران قبل أن تلد زوجته ، فلما جاءها المخاض فوضعت ،إذا الوليدة أنثى فخاب أملها لأن بني إسرائيل لم يعتادوا أن يهبوا لخدمة البيت إلا ذكوراً ، فرفعت رأسها للسماء ودعت ربها :رب إني وضعتها أنثى وأنت يا رب أعلم مني ، وليس الذكر كالأنثى أي أنها لا تصلح لخدمة البيت ولكن الكلام هو كلام الله تعالى أي أن الحق يقول لها لا تظني أن الذكر الذي كنت تتمنينه سيصل إلى مرتبة هذه الأنثى ، ولكن سيكون لها شأن عظيم .
وقالت امرأة عمران أنها سمت المولودة مريم أي العابدة فهي وإن فاتها خدمة البيت بحكم كونها أنثي فأمها تتمنى أن تكون البنت عابدة طائعة ، وأول ما يعترض العبودية والطاعة هو الشيطان لأجل ذلك أرادت امرأة عمران أن تحمي ابنتها من نزغات الشيطان ، وتقبلها الله تعالى قبول حسن أي أن الله تعالى أخذ ما قدمته امرأة عمران برضا وبشئ حسن.
أخذت أم مريم ابنتها وذهبت بها إلى بيت المقدس فوجدت ترحيباً من الأحبار ولم يعترض أحد في أن تترك المولودة في البيت في رعايتهم. واختلف الأحبار في أمر مريم وحاول كل منهم أن يحظى بشرف تربيتها وكفالتها ، فتقدم زكريا زوج خالتها وقال لهم : أنا أولى بها ، فزوجتي خالتها ، فاعترضوا وقالوا إنها منذورة للبيت ولذلك يجب إجراء قرعة على من يكفلها .فذهبوا للنهر واقترعوا برمي الأقلام في النهر مرة بمن سيجري قلمه عكس التيار ومرة من سيجري قلمه مع التيار ومرة ثالثة من سيطفو قلمه ، وفي المرات الثلاث كان زكريا عليه السلام هو الفائز.
(2)
أخذ زكريا مريم إلى داره واعتنت بها زوجته حتى صارت طفلة وحان وقت ذهابها إلى البيت الذي نذرت له .
عاشت مريم في بيت المقدس تتعلم فروض دينها وزكريا عليه السلام يزورها ويحضر لها ما تحتاج إليه من كسوة وطعام ، وكان كلما دخل زكريا على مريم وجد عندها طعام فيسألها من أين لك بهذا الطعام فتقول هو من عند الله .
وكان سيدنا زكريا وزوجته قد حُرما من الإنجاب ، فلما رأى زكريا وسمع من مريم عن أن الله يرزق من يشاء بغير حساب ،دعا زكريا ربه أن يهب له ولداً صالحاً فنادته الملائكة وهو يصلي بأن الله يبشره بغلام وقد أسماه الله يحيى.
(3)
"وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين..يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين"
"إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين..ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين..قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون"
اصطفى الله سبحانه وتعالى مريم اصطفائين أولهما أن الله اصطفاها بالإيمان والصلاح وهذا الإصطفاء لا يمنع من وجود آخرين معها ، أما الإصطفاء الثاني فجاء مسبوقاً بعلى فهي الوحيدة التي ستلد بدون رجل ،ومادام حدث منها هذا فلابد أن تتعرض للمطاردة والإضطهاد .
"وجعلنا ابن مريم وأمه آية وأويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين"
هيأ الله تعالى لمريم مكان تأوي إليه وفيه مقومات الحياة التي لا تنقطع ، و(معين) أي ماء معين يرى بالعين .
وقد بشّرت الملائكة مريم والبشارة لا تكون إلا للخبر المفرح ، فالله تعالى أمر كن فكان عيسى وهووجيهاً في الدنيا أي ذو وجاهة وشرف بنبوته وما أعطاه الله من آيات ومعجزات ، وفي الآخرة يكون مقرباً من الله .
كانت مريم قد تفرغت للقيم الدينية التي أنشئ من أجلها البيت المقدس حتى أنها هجرت أهلها وذهبت إلى مكان بعيد تخلو فيه عن الناس واكتفت بأنسها بالحق سبحانه واختارت مكاناً شرقياً أي شرق بيت المقدس لأنهم كانوا يتفاءلون بشروق الشمس.
تمثل سيدنا جبريل لمريم في صورة بشر وكان سوي التكوين فقالت له أعوذ بالرحمن منك أي حتى لو لم يكن رجل تقي فرحمة ربها تقيها منه ، قال لها سيدنا جبريل أنه ليس قادماً من تلقاء نفسه ولكن الأمر هبة من الله وغلام زكي أي مطهر وصاف ونقي ، فلما سألت مريم عن كيفية حدوث هذا وهي لم يمسها بشر قال لها هذه هي إرادة الله تعالى.
(4)
عندما بدأت آلام الولادة ، خافت مريم وذهبت إلى مكان بعيد عند جذع النخلة وهي معرّفة ب(ال) أي أنها نخلة معروفة ، وتمنت مريم الموت فهي في حيرة شديدة ، فسمعت صوت يناديها : يا مريم لا تحزني وهزي النخلة تتساقط عليكي تمرها فكلي واهدأي ،ولا تكلمي أحد من البشر وكان وليدها هوالذي كلمها ، ولذلك حين ذهبت به إلى قومها لم تكن خائفة وإنما مطمئنة بأن الله لن يخذلها . واتهمها قومها بأنها أتت شيئاً غير متداول وهو أن تلد بدون زواج وقالوا لها : أنها تتعمد الكذب وقولهم يا أخت هارون تقريع لها لأنهم عرفوها عابدة وأبوها لم يكن سيئاً ولا أمها ، ولما كثرت الأسئلة على السيدة مريم أشارت إلي وليدها ، فاستغرب القوم وقالوا لها : كيف نكلمه وهو مازال وليداً ولكنهم صُدموا حين رد عليهم عيسى عليه السلام : إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وأوصاني أن أكون باراً بوالدتي عطوفاً عليها ، وجعلني لين الجانب واسع الصدر ويوم ميلادي كان سلاماً ويوم موتي سلاماً لأنه سيأتون له بغية صلبه ولكن يشبه لهم أنهم صلبوه ، ويوم يبعث حياً لأن الله تعالى سيسأله أسئلة وسيرد عيسى أنه لم يقل إلا ما أمره به الله .
هذه قصة عيسى ابن مريم يخبرنا بها الله سبحانه وتعالى وهي قصة الحق ضد الباطل الذي سيشكّون فيه ويقولون فيه الأقاويل.
عيسى عليه السلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
لم يكد عيسى الوليد ينتهي من كلماته وهومازال في المهد حتى كانت وجوه الكهنة والأحبار ممتقعة وشاحبة..كانوا يشهدون معجزة تقع أمامهم..طفل يتكلم في المهد..طفل جاء بغير أب..طفل يقول أن الله قد أتاه الكتاب وجعله نبياً..هذا يعني أن سلطتهم في طريقها إلى الإنهيار ، ولن يستطيع أي منهم أن يبيع الغفران للناس أو يحكمهم عن طريق ادعائه أنه ظل السماء على الأرض.
تكتم رهبان اليهود قصة ميلاد المسيح وكلامه في المهد واتهموا مريم العذراء ببهتان عظيم رغم أنهم عاينوا بأنفسهم معجزة كلام ابنها في مهده...
رغم كل هذا تسربت أنباء قصة ميلاد عيسى إلى الحاكم الروماني هيرودوس ، وكان يحكم اليهود والفلسطينيين بقوة السيف والخوف وكثرة الجواسيس..ووصلت إليه أنباء عن الطفل الذي ولد بغير أب ويتكلم في المهد ، فعقد اجتماع مع كبار ضباطه وجواسيسه وأمرهم بمعرفة القصة كاملة فقد كان كل خوفه على سلطان روما الذي يمثله . وخوفاً من بطش الملك فرت السيدة مريم بوليدها من فلسطين إلى مصر حيث عاش عيسى عليه السلام طفولته وصباه ، ثم حدث أن مات هيرودوس فعادت السيدة مريم وعيسى عليه السلام إلى فلسطين ولكن هذه المرة إلى مدينة الناصرة وليس إلى أورشليم.
(2)
في هذه القرية نشأ الصبى عيسى وتعلم النجارة وتعلم القراءة والكتابة ، وكان أطفال القرية يقبلون عليه ليستمعوا إلى قصصه وكان عيسى عليه السلام يحاول بقصصه أن يغرس في نفوسهم المحبة ويعلمهم أصول الدين خالصة من البدع الشائعة ، واتخذ من التوراة أساساً لتعليمه ، فلقبه الناس بالمعلم الأمين.
كبر عيسى وبلغ سن الشباب وخرج يوماً من بيته في طريقه إلى المعبد اليهودي ، وكان اليوم السبت واليهود يخصصون هذا اليوم للعبادة ، ولكن ذهبت الحكمة من احترام يوم السبت وبقى يوم السبت نفسه ميداناً لتطبيق النصوص الحرفية الجامدة ، وتصور المحافظون على الشريعة أن الغرض الأسمى من وجودهم هو إقامة الأسوار التي تصون الشريعة ، ورغم ذلك نراهم على استعداد تام لابتداع الحيل التي تمكنهم من التخلص من أحكام الشريعة في الوقت المناسب والتي تتعارض مع مصالحهم الشخصية.
دخل عيسى عيه السلام المعبد وكلما أدار وجهه يجد الكهنة ، منهم اللاويون والفريسيون والصدوقيون بملابسهم المزركشة والمختلفة ، ولاحظ سيدنا عيسى أن عدد زوار الهيكل أقل من عدد الكهنة ورجال الدين ، وكان المعبد يمتلئ بالقرابين التي تذبح وتحرق وهناك آلاف من الفقراء يموتون جوعاً خارج المعبد ، فانصرف سيدنا عيسى وخرج من المدينة كلها إلى الجبل.
كان صدره يشتعل بغيرة مقدسة على الحق وبدأ يصلي وطالت وقفته وانهمرت دموعه ، وفي هذه الليلة نزل الوحي على عيسى ابن مريم وصدر له أمر الله تبارك وتعالى أن يبدأ دعوته...
(3)
بدأت رحلة عيسى بن مريم... رحلة الشقاء المليئة بالألم..
أراد عيسى عليه السلام أن يفهم قومه أن الشريعة الحقيقية هي التسامح والعفو ، فشريعة سيدنا موسى تقول من ضربك على خدك الأيمن فخذ حقك منه واضربه على خده الأيمن أما اليهود فيطبقون شريعة القصاص..إذا كان المضروب قادراً ، نسف بيت الضارب ولم يكتف بضربه على خده الأيمن ، أما إذا كان غير قادر ..ضربه على خده الأيمن وامتلأ قلبه بالحقد لأنه لم يدمر بيته.
جاءت شريعة عيسى عليه السلام نقضاً لما استحدثه الفريسيون والصدوقيون في شريعة موسى عليه السلام وإحياءً لحقيقة هذه الشريعة وأهدافها العليا.
وتميزت دعوة سيدنا عيسى من بدايتها إلى نهايتها بالشفافية والنقاء البالغين ، وهي دعوة تعتبر دستوراً للسلوك الفردي وليست نظاماً للحياة وقانوناً للمجتمع وتشريعات محددة .
(4)
"إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين"
تحدد الآيات السابقة خمس معجزات لسيدنا عيسى
الأولى : تكليمه للناس في المهد.
الثانية:تعليمه التوراة ..وكانت التوراة التي أنزلت على موسى قد اختفت تحت ركام التحويرات والتفسيرات المتعاقبة لفقهاء اليهود.
الثالثة:تصويره من الطين كهيئة الطير ثم النفخ فيه فيكون طيراً.
الرابعة:احياؤه الموتى.
الخامسة:ابراؤه الأكمه وهو من ولد أعمى والأبرص هو المريض بجلده ولا شفاء له.
وهناك معجزة سادسة يذكرها القرآن الكريم في سورة المائدة..
"إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين..قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين..قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين..قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين"
وكأن المعجزة السادسة هي إنزال المائدة من السماء بطلب الحواريين
وهناك معجزة سابعة وردت في سورة آل عمران ، وهي إخباره عليه السلام بأمور غائبة عن حسه ، فقد كان ينبئ صحابته وتلاميذه بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم..
"وانبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين"
هذه هي معجزاته السبع تسبقها معجزة ميلاده من غير أب....وتليها معجزة رفعه من الأرض حين حاولت السلطات الحاكمة صلبه..
الجزء الثاني الحواريون
عيسى والحواريون
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
بدأ سيدنا عيسى دعوته إلى الله مؤيداً بروح القدس ومعجزاته الباهرة..لم يقل عيسى عليه السلام في مسألة التوحيد أقل ولا أكثر مما قاله أنبياء الله جميعاً..
-اعبدوا الله ربي وربكم.
ولقد جاء القرآن بعد خمسمائة عام تقريباً من رفع عيسى عليه السلام ..ولعلم الله تعالى الأزلي بما سيصير إليه أمر المسيحية من اختلاف حول طبيعة عيسى حرص القرآن على أن يكشف عن حوار لم يقع بعد..
"وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب"
يفيد النص القرآني أن الدعوة المسيحية التي نزل بها عيسى عليه السلام كانت دعوة إلى التوحيد وتبرأته من كل ما قيل حول بنوته أو ألوهيته...أنزل الله عليه الإنجيل وهو كتاب مقدس جاء تصديقاً للتوراة وجاء إحياءً لشريعتها الأولى وليحل بعضاً من الذي حرمته التوراة.
اصطدم عيسى عليه السلام بتفسير اليهود الحرفي للشريعة واصطدم بالتيار المادي السائد في المجتمع وكذلك الثنائية التي يعامل بها الناس بعضهم بعضاً..ونذكر قصة المرأة الخاطئة التي أحضرها كهنة اليهود ليرجموها وقالوا أن شريعة موسى تقضي برجم الزانية ، واجتمع الناس كل منهم بيده حجر ليرجم المرأة ، وكان سيدنا عيسى يعلم أن الكهنة أشد ظلماً منها فوقف وقال : من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر ..فسكت الناس ولم يستطع أحد أن يرجمها..
(2)
استمر عيسى عليه السلام يدعو الناس إلى عبادة الله ، ولكنه عندما أعلن منهج الحق وجد أنصار الظلم وأنصار البغي غير مستعدين للإيمان بالله ، لذلك أحس منهم الكفر وأراد أن ينتدب جماعة ليعينوه على أمر دعوته ، والمعركة تحتاج إلى تضحية والتضحية تكون بالنفس والنفيس..فقال : من أنصاري إلى الله ، قال الحواريون نحن أنصار الله..
(الحواريون) مأخوذة من الحور وهو شدة البياض في العين ، وهم جماعة يقول القرطبي أنهم اثنى عشر رجلاً كانت وجوههم مشرقة بنور الإيمان..
"فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون"
قال الحواريون أولاً :آمنا بالله لأنه أمر غيبي في القلب ثم قالوا أسلمنا لأن الإسلام خضوع لمطلوبات الإيمان وأحكامه..ثم طلبوا من عيسى عليه السلام أن يشهد بأنهم مسلمون فهو قد بلغهم الأحكام وهم آمنوا وأسلموا وأطاعوا.
ويؤكد النص القرآني أن عيسى عليه السلام قد بشر برسول يأتي من بعده واسمه أحمد..
"وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين"
(3)
كان عيسى عليه السلام قد قال للحواريين عليكم بتقوى الله عزّ وجلّ ولا تسألوه آية ما دمتم أعلنتم إيمانكم ، يرى بعض العلماء أن الحواريين ما كانوا يجهلون قدرة الله تعالى ، وإنما صدر سؤالهم من منبع الحب لله ورغبتهم في شهود قدرته .
"إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزّل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين..قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين..قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين..قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين"
لقد قدم الحواريون بشريتهم فطلبوا من المائدة الأكل والطعام ، وقدم عيسى ابن مريم عليه السلام بصفة اختياره رسولاً القيم على الطعام فبدأ بنداء الألوهية أولاً ثم جاء بعدها نداء الربوبية (اللهم ربنا)..وأنزل الله المائدة ، وصار يوم نزول المائدة عيداً من أعياد الحواريين ثم أسدلت عليه أستار النسيان فلا نجد خبرها اليوم في أناجيلهم التي يعترفون بها .
(4)
مضى عيسى عليه السلام في دعوته حتى أدرك الشر أن عرشه مهدد بالزوال ، وبدأ اليهود يكيدون له ويدسون عند الرومان بشأنه واجتمع مجلس السنهدريم وهوالمجلس التشريعي الأعلى لليهود للتآمر على عيسى عليه السلام. وحين عجز اليهود عن حرب عيسى بدأ التفكير في قتله واتفق معهم واحد من تلاميذه ، ولكن كهنة اليهود لم يكن في سلطتهم اصدار حكم الإعدام ، وكان ذلك من سلطة الوالي الروماني . وتم احكام المؤامرة وتقرر القبض على عيسى وصلبه.
حدث القرآن الكريم أن الله تعالى لم يسمح لبني إسرائيل بقتل عيسى عليه السلام ولا صلبه ، وإنما نجاه الله من كفرهم ورفعه إليه ..
"وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه اهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً..بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيما"
إن عيسى عليه السلام أحس من بني إسرائيل الكفر والتبييت ومؤامرة القتل ، فطمأن الله عيسى ، فقتلوا شخصاً آخر شبهه الله لهم ولم يكن هو المسيح وصلبوه بعد ذلك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"الأنبياء أخوة ، دينهم واحد وأمهاتهم شتى وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم فليس بيني وبينه نبيّ"
وقد ورد في الأثر أن عيسى سوف ينزل في آخر الزمان .
إدريس عليه السلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
"واذكر في الكتاب إدريس إنّه كان نبياًّ..ورفعناه مكاناً علياً"
إدريس عليه السلام هو أول نبي بعد سيدنا آدم عليه السلام ، وكان صديقاً أي أنه يبالغ في تصديق كل ما يجئ به الحق ، لأن الكلام إذا كان موافقاً للحق ومن الحق فلا يتصادم معه شيطان في الدخول على العقل ، ويجعل الله له فرقاناً بحيث إذا سمع الحق يصدّقه.
والرفعه يقصد بها مكاناً في السماء أو رفعة معنوية أو رفعة حسيّة ..فهي رفعة من عند الله سبحانه وتعالى.
وسيدنا إدريس هو أول من علمه الله أن يخيط الملابس بعد أن كانوا يسترون أجسامهم بجلود الحيوانات ، وهو أول من علمه الله غزل الصوف ، وأول من استخدم النجوم في الإهتداء بها في ظلام الليل ، كما أنه أول من خط بالقلم . وهذه الأشياء تسمى (أوليات إدريس).
لوط عليه السلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
"كذبت قوم لوط المرسلين..إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون..إني لكم رسول أمين..فاتقوا الله وأطيعون"
بهذا الرفق والود دعا لوط قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
"ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم من أحد من العالمين..إنكم لتأتون الرجال شهوةً من دون النساء بل أنتم قومٌ مسرفون"
لم يقل الحق في هذه الآيات أخاهم لوط وذلك لأن سيدنا لوط لم يكن من هذا المكان ، فسيدنا لوط هو وسيدنا إبراهيم كانا من مدينة بعيدة ، ثم جاء سيدنا لوط إلى هذا المكان فراراً من الإضطهاد ، وعاش مع هؤلاء القوم فترة فعرفوا أخلاقه وصفاته وأنسوا به.
كان هؤلاء القوم يفعلون الفاحشة وهي المبالغة في القبح ، ولم يفعلها أحد من قبل ، وكانوا يتجاوزون الحد في البعد عن شريعة الله تعالى .وفي آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى
"ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون..أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون"
تبصرون أي تتعالمون بها وتجهرون وهذا يدل على أن الكل مجمع على هذه الفاحشة وفي آخر الآية يقول الله تعالى "بل أنتم قوم تجهلون" والجهل هنا ليس معناه أنهم لا يعلمون ولكن عكس العلم هو الأميّة ، أما الجاهل فعنده قضية مخالفة باطلة ، ولذلك يجب نزع القضية الباطلة ثم إدخال قضية الحق وهذا يحتاج لجهد كبير ، فالذي يتعب العالم هو الجاهل وليس الأمي.
ولم يؤمن مع سيدنا لوط أحد..لم يؤمن به إلا أهل بيته ..حتى أهل بيته لم يؤمنوا به جميعاً فقد كانت زوجته كافرة مثل زوجة سيدنا نوح..
"وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون..فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين".
قالوا الحل أن نخرج لوط وقومه من القرية لأنه جاء ليفسد علينا ما نفعله .
(2)
"ولما جاءت رسلنا لوطاً سئ بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب..وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات"
خرج الملائكة من عند سيدنا إبراهيم بعد أن بشّروه بإسحق ومن ورائه يعقوب ، وقالوا لسيدنا إبراهيم أنهم ذاهبون لإهلاك قوم لوط ، ولما وصلوا عند سيدنا لوط كان ضيق الصدر خائفاً عليهم من القوم وفسادهم وأسرعت امراته وأبلغت قومها عن ضيوف لوط فأتوا إلى داره ولكنه نصحهم وحاول أن يلمس جانب التقوى فيهم فقال لهم ..
"وقال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد"
ولكنهم كانوا منحرفين قلوبهم جامدة وعقولهم مريضة ورفضوا نصيحته . شعر سيدنا لوط بالألم وتمنى أن يأوي إلى مكان بعيد ، إلى ركن الله يحتمي فيه ، فلما بلغ الضيق ذروته تحرك ضيوفه ونهضوا وأفهموه أنهم ملائكة وأن قومه لن يصلوا إليه ، وأصدروا أوامرهم إلى لوط بأن يصحب أهله أثناء الليل ويخرج وسيسمعون أصواتاً مروعة تزلزل الجبال فلا يلتفت منهم أحد كي لا يصيبه ما يصيب القوم ، وأفهموه أن امرأته كافرة وستلتفت خلفها فيصيبها ما يصيب قومها..وقالوا له أن موعد العذاب في الصبح.
ماذا حدث بعد ذلك لقوم لوط ؟ يقول الحق تبارك وتعالى :
"وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين"
والمطر عادة يأتي بالخير ، ولكن هذا المطر لم يكن خيراً بل كان حجارة انهالت عليهم من السماء ..
"فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود..مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد"
أي قلبت رأساً على عقب ،ومنضود بمعنى منظمة ، فهي حجارة معدّة من قبل وتنتظر أمر ربها ، ومسومة أي معلمة كل حجر ينزل على صاحبه..وليحذر كل ظالم ، فإن عقوبة الله ليست ببعيدة عنه ولا هو بمنأى عنها.
شعيب عليه السلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1)
يعتقد كثير من الناس أن الدين مجموعة من القيم الأخلاقية ..وهذا اعتقاد خاطئ ، إن الدين في حقيقته الأولى أسلوب للحياة والتعامل. ولقد أبرزت قصة سيدنا شعيب هذا المعنى بشكل واضح..
"وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط..ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين..بقيّت الله خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ"
ومدين هو اسم قبيلة سكنت في هذه المنطقة ، وكان عيب آل مدين هو عدم عبادة الله وحده ، وكذلك كانت بينهم خسيسة التطفيف في الميزان ، لذلك جاء سيدنا شعيب إلى قومه يطلب منهم أن يعبدوا الله وألا ينقصوا المكيال والميزان ، ويقول لهم إني أراكم بخير أي أنكم لديكم ما يكفيكم من مال لحياتكم ، وما يغنيكم من سرقة غيركم ، ويقول لهم إني أخاف عليكم عذاب الآخرة الذي لن يفلت منه أحد ، ثم يكرر سيدنا شعيب طلبه مرة أخرى ويقول لهم لا تبخسوا الناس أشياءهم ، والبخس هو الضرر بالنقص أو إنقاص القيمة المعنوية للشئ ، فالإنسان مطالب بعمارة الأرض وإصلاحها ، وأقل الإصلاح أن تترك الصالح على صلاحه ، فإن استطعت أن ترقى به فافعل.
وينبههم سيدنا شعيب بأن الله رقيب عليهم ، ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً دون أن يراهم ، وأنه هو لا يستطيع أن يحافظ عليهم من النار ولا يملك لهم شيئاً وليس حفيظاً عليهم ولا حارساً لهم.
فماذا كان رد قومه ؟
"قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد"
وكلام قوم شعيب هنا على شكل تهكم ساخرين ، وخصوا الصلاة بالإنكار دون سائر أحكام النبوة التي دعاهم إليها لأنه كان كثير الصلاة معروفاً بذلك ، وكان رد سيدنا شعيب..
"قال يا قوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب..ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد..واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود"
قال لهم سيدنا شعيب : إن كنت على يقين وحجة ومنهج صادق من ربي فأعطاني الخير كله من علم ورزقني ، وقال لهم لن تجدوني أفعل ما أنهاكم عن فعله أبداً ، وأنا ما أريد إلا الإصلاح ..صلاح مجتمعكم وصلاح أموركم بقدر استطاعتي والله يوفقني لأني أخلصت النية لله تعالى وتوكلت عليه وليس على أحد غيره وإليه مرجعكم جميعاً. ثم يقول لهم سيدنا شعيب :لا تجعلوا عداوتكم لي واختلافكم معي تجعلكم تصرون على ما أنتم عليه من كفر فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط قريبون منكم مكاناً وزماناً ، ويطلب منهم أن يستغفروا ربهم فإن باب التوبة مفتوح والله تبارك وتعالى رحيم ودود لايرد من يقف ببابه ، رحمته سبقت عذابه ومغفرته تسع الذوب جميعاً..
(2)
"قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز..قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهرياً إن ربي بما تعملون محيط..ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب"
عندما طلب شعيب عليه السلام من قومه أن يستغفروا ربهم ويتوبوا إليه قالوا له : نحن لا نفهم ما تقوله والحقيقة أنهم لا يريدون أن يفهموا ، ولولا ضعفك وأنك لا تتحمل الوقوف أمامنا ، ولولا أهلك لقتلناك رجماً بالحجارة فليس لك عزة عندنا وذلك علينا هين . وذكرهم سيدنا شعيب بمن هو أقوى منهم ..تخافون أهلي وهم أفراد وتمتنعون عن إيذائي ولا تخافون الله القادر أن يهلككم ولم تحسبوا له حساب ولم تخشوه ، ثم يلفتهم إلى أن الحق سبحانه وتعالى يعلم كل ما يفعلونه ظاهراً وباطناً.
وبدأ سيدنا شعيب يهددهم ويقول لهم :اعملوا أنتم قدر ما تستطيع الدنيا أن تعطيكم بأسبابها وأما أنا فسأعمل على إبلاغ منهج الله ولن أسكت عن الدعوة وسوف تعلمون قريباً من يأتيه العذاب والخزي في الدنيا والآخرة ، ومن سيكون له النصر.
"قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين..قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد أن نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما."
قال سادة القوم الذين يقفون أمام كل دعوة حق لأنها ستسلبهم الميزات التي يتمتعون بها من أكل حقوق الناس قالوا أنهم سيخرجون شعيب ومن آمن معهم من المكان الذي تتوافر فيه متطلبات الحياة ، أو يعودوا كفار ، رد شعيب عليه السلام : أنهم لو عادوا إلى ملة الكفر يكونوا قد افتروا الكذب لأنهم يعرفون حقيقة الإيمان ، وأنهم قد اختاروا جانب الحق فنجاهم الله تعالى.
(3)
ومضى كل جانب يرتقب ..شعيب والذين آمنوا معه يرتقبون نزول العذاب بالكافرين ، والذين كفروا ينتظرون الفرصة المواتية ليقضوا على شعيب