ماذا تعني كلمة المرابطين؟ وما أصلهم؟.
تعنيالقيام باتخاذ خيامًا على ثغور المسلمين لحمايتها والدفاع عنها، ومن هناأطلق عليهم اسم المرابطين. ويُنسب المرابطون إلى قبيلة جدالة بموريتانيا.
كيف تحولوا من قمة الفساد إلى هذا الصلاح؟ وكيف بلغت هذه القوة؟
كانت أوضاع جدالة في منتهى الفساد والانحلال، ففكر قائدهم يحيى بن إبراهيم: ماذا يفعل ليصلح أحوال قبيلته؟ فاستدعى رجلاً يدعى عبد الله بن ياسين لكييعظ هؤلاء الناس، وتنشأ دولة المرابطين من هذه الدعوة. وبعد وفاة عبد اللهبن ياسين في سنة 451 هـ/ 1059م، يتولى أبو بكر بن عمر اللمتوني زعامةالمرابطين بعد أن كان قد انضم هو وقبيلته إلى المرابطين، ويزداد أعدادالمرابطين في عهده، وتتوسع الدولة، وينيب عنه ابن عمه يوسف بن تاشفينزعيمًا على المرابطين، ويذهب لنشرالإسلامفي السنغال وغيرها من بقاع إفريقيا. أما يوسف بن تاشفين فلقد حارب حاييمبنمنّ الله، وحارب صالح بن طريف؛ لأنهم ادَّعوا النبوة، وبدأ ينشرالإسلام، حتى عاد أبو بكر بن عمر اللمتوني، فلما وجد يوسف بن تاشفين وقدنشر الإسلام وحارب أعداء الدين؛ فتنازل له عن الحكم وذهب إلى إفريقيا لنشرالإسلام، وقبل وفاته كانت دولة المرابطين تسيطر على ثلث إفريقيا.
المرابطون بالأندلس:
فيسنة 478 هـ/ 1085م يعبر يوسف بن تاشفين إلى الأندلس ويتحد مع الأندلسيينويهزم ألفونسو السادس في موقعة "الزَّلاَّقة" من أشهر مواقع التاريخالإسلامي، ويوحد المغرب والأندلس تحت راية واحدة، وبعد وفاة يوسف بنتاشفين حرر المسلمون الكثير من الأراضي الإسلامية المحتلة.
ولكن هل تنتهي دولة المرابطين؟
نعم،كان لا بد من نهاية لهذه الدولة، ويعود السبب في ذلك إلى الفتنة بالدنياوالأموال، وانشغال المرابطين بالأمورالخارجية عن الأمور الداخلية، وكثرةالذنوب سواء في بلاد المغرب أو في الأندلس، وتعمق العلماء في الفروع دونالأصول. ومن العوامل المسئولة عن الانهيار أيضًا حدوث أزمة اقتصادية فيآخر عهد المرابطين؛ بسبب البعد عن الطريق الصحيح.
مزيد من التفاصيل
مَنْ هُم المُرَابِطُون؟
قبيلة جُدَالة وأصل المرابطين
كانالتاريخ هو سنة 478 هـ= 1085 م، حيث سقطت طُلَيْطِلَة، وحوصرتإِشْبِيلِيّة، وعُقد مؤتمر القمة، ومن هذا التاريخ نعود إلى الوراء ثمانيةوثلاثين عامًا، وبالتحديد في 440 هـ= 1048 م حيث أحداث "بربشتر" و"بلنسية" السابقة، لنكون مع بداية تاريخ المرابطين.
وكماغوّرنا في أعماق التاريخ، نعود ونغوّر في أعماق صحراء موريتانيا البلدالإسلامي الكبير، وبالتحديد في الجنوب القاحل، حيث الصحراء الممتدة،والجدب المقفر، والحرّ الشديد، وحيث أناس لا يتقنون الزراعة ويعيشون علىالبداوة.
فيهذه المناطق كانت تعيش قبائل البربر، ومن قبائل البربر الكبيرة كانت قبيلة "صنهاجة"، وكانت قبيلتي "جُدَالَة ولَمْتُونة" أكبر فرعين في "صنهاجة"...
كانت "جُدَالة" تقطن جنوب موريتانيا، وكانت قد دخلت في الإسلام منذ قرون، وكانعلى رأس جدالة رئيسهم يحيى بن إبراهيم الجدالي، وكان لهذا الرجل فطرةسوّية وأخلاق حَسَنة.
نظريحيى بن إبراهيم في قبيلته فوجد أمورًا عجيبة (كان ذلك متزامنًا مع مأساةبربشتر وبلنسية)، وجد الناس وقد أدمنوا الخمور، وألِفوا الزنى، حتى إنالرجل ليزني بحليلة جاره ولا يعترض جاره، تمامًا كما قال سبحانه وتعالى فيكتابه الكريم: [وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المُنْكَرَ]{العنكبوت:29}.
ولماذا يعترض الجار وهو يفعل نفس الشيء مع جاره؟!
فقدفشى الزنى بشكل مريع في جنوب موريتانيا في ذلك الزمن، وكثر الزواج من أكثرمن أربعة، والناس ما زالوا مسلمين ولا ينكر عليهم أحد ما يفعلونه، فالسلبوالنهب هو العرف السائد، القبائل مشتتة ومفرقة، القبيلة القوية تأكلالضعيفة، والوضع شديد الشبه بما يحدث في دويلات الطوائف، بل هو أشدّ وأخزى.
((وكانالمغرب الأقصى في ذلك الوقت في محنة سياسية ودينية، حيث ظهرت دعوات منحرفةعن الإسلام وحقيقته وجوهره الأصيل، واستطاعت بعض الدعوات الكفرية أن تشكلكيانًا سياسيًا تحتمي به))... د. الصلابي - الجوهر الثمين بمعرفة دولةالمرابطين
لقدكانت هذه الأوضاع سواء في بلاد الأندلس أو في موريتانيا أشد وطأةً مما نحنعليه الآن، فلننظر كيف يكون القيام، ولنتدبّر تلك الخطوات المنظّمة والتيسار أصحابها وفق منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء الدولة وإصلاحأحوال الأمة...
يحيى بن إبراهيم يحمل هَمّ المسلمين
كان يحيى بن إبراهيم الجُدالي صاحب الفطرة النقيّة يعلم أن كلّ ما يفعله قومه من المنكرات، لكنه لم يكن بمقدوره التغيير؛فالشعب كله في ضلال وعمى، وبعيد كل البعد عن الدين، كما أن الرجل نفسه لا يملك من العلم ما يستطيع به أن يغيّر الناس.
وبعد حيْرة وتفكّر هداه ربُّه لأن يذهب إلى الحج، ثم وهو في طريق عودته يُعرّج على حاضرة الإسلام في المنطقة وهي مدينة القيروان (في تونس الآن)، فيكلّم علماءَها المشهورين بالعلم لعلّ واحدًا منهم أن يأتي معه فيُعلّم قبيلته الإسلام.
وبالفعلذهب إلى الحج وفي طريق عودته ذهب إلى القيروان، وقابل هناك أبا عمران موسىبن عيسى الفاسي (368 - 430 هـ= 979 - 1039 م )، وهو شيخ المالكية في مدينةالقيروان (كان المذهب المالكي هو المنتشر في كل بلاد الشمال الإفريقي وإلىعصرنا الحاضر، كما كان هو المذهب السائد في بلاد الأندلس)، قال عنهالحميدي صاحب جذوة المقتبس في ذكر ولاةالأندلس - (جـ 1 / صـ 121) موسى بن عيسى بن أبي حاج واسم أبي حاج: يحج أبو عمرانالفاسي، فقيه القيروان، إمام في وقته دخل الأندلس وله رحلة إلى المشرق،وصل فيها إلى العراق، فمن مشايخه بالأندلس أبو الفضل أحمد بن قاس بن عبدالرحمنصاحب قاسم بن أصبغ، وأبو زيد عبد الرحمن بن يحيى العطار، وأبو عثمان سعيدبن نصر، وسمع بالقيروان من أبي الحسن علي بن محمد بن خلف القابسي وغيره،وبمصر من أبي الحسين عبد الكريم بن أحمد ابن أبي جدار وغيره، وبمكة من أبيالقاسم عبيد الله بن محمد بن أحمد السفطي وغيره، والعراق من أبي الفضلعبيد الله بن عبد الرحمن الزهري وغيره؛ وكان مكثراً عالماً...
وقال عنه الحِميري صاحب الروض المعطار في خبر الأقطار - (جـ 1 / ص 435): الفقيه الإمام المشهور بالعلْم والصلاح...
وقالعنه ابن فرحون صاحب الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب - (جـ 1 / ص 172) قال حاتم بن محمد: كان أبو عمران من أحفظ الناس وأعلمهم جمع حفظالمذهب المالكي إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة معانية وكانيقرأ القرآن بالسبع ويجوده مع معرفته بالرجال وجرحهم وتعديلهم.
فلماالتقى به يحيى بن إبراهيم الجدالي حكى له قصته وسأله عن الدواء، فما كانمن أبي عمران الفاسي إلا أن أرسل معه شيخًا جليلًا يعلّم النّاس أموردينهم.
تُـرى من هو هذاالشيخ؟!
كانعبد الله بن ياسين ( الزعيم الاول للمرابطين، وجامع شملهم، وصاحب الدعوةالإصلاحية فيهم. ت451 هـ= 1059 م) من شيوخ المالكية الكبار، له طلاب علمكثيرون في أرض المغرب والجزائر وتونس، كانوا يأتون إليه ويستمعون منه،وكان يعيش في حاضرة من حواضر الإسلام على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وهاهو يقبل القيام بهذه المهمة الكبيرة، وفضّل أن يُغوّر في الصحراء ويترك كلما هو فيه ليعلّم الناس الإسلام، ويقوم بمهمة الأنبياء والرسل، وهي الدعوةإلى الله سبحانه وتعالى.
لميكن عبد الله بن ياسين فقيهًا فحسب وإنما استوعب العلوم والمناهج التيكانت في زمانه من أصول وفقه وحديث ولغة وغير ذلك وعاش تجارب كثيرة وأحاطبالكثير من مجريات الأمور التي تدور حوله، إضافة إلى ذلك اتصف ابنُ ياسينرحمه الله بالكثير من الصفات الأخلاقية والقيادية منها ما كان فطريًاومنها ما اكتسبه بمجاهدته لنفسه وطول عبادتهلربه، وهذه الأمور مجتمعةً جعلته أهلًا لأن يحمل هذه الأمانة العظيمةوجعلته حريًا أن يختاره شيوخه للقيام بهذه المهمة العظيمة في ذلك الوقتالعصيب من تاريخ تلك المنطقة لتصبح بعد سنواتٍ قليلة منبعَ الخير للأمةكلها ومحضنَ المجاهدين وقبلة الراغبين في الجنة...
ومنأهمّ ما يميّز الشيخ أيضًا فهمه للواقع وأخذه بفقه الأولويات ومعرفة هدفهوالعمل له بجدٍ واجتهادٍ وهمةٍ عاليةٍ وعزيمة صادقة، دون الصدام مع منيريدون لدعوته الفناء حرصًا على مصالح شخصية ومنافع دنيوية وأهداف دنيئة...
عبد الله بن ياسين ومهمّةالأنبياء :
اتّجهالشيخ عبد الله بن ياسين صَوْب الصحراء الكبرى، مخترقًا جنوب الجزائروشمال موريتانيا حتى وصل إلى الجنوب منها، حيث قبيلة جُدَالة، وحيث الأرضالمجدِبة والحرّ الشديد، وفي أناةٍ شديدة، وبعد ما هالَه أمر الناس فيارتكاب المنكرات أمام بعضهم البعض ولا ينكر عليهم منكر، بدأ يعلم الناس،يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
كانالناس في جهل مطبق وبعدٍ تام عن الإسلام قال القاضي عياض في ترتيب المداركوتقريب المسالك - (جـ 2 / ص 64) واصفًا حال هؤلاء القوم في ذلك الوقت: كانالدين عندهم قليلاً، وأكثرهم جاهلية، ليس عند أكثرهم غير الشهادتين، ولايعرف من وظائف الإسلام سواهما
ولكن - وللأسف - ثار عليه أصحاب المصالح بل وثار عليه الشعب أيضًا، فالكل يريدأن يعيش في شهواته وملذاته ودون قيد أو شرط، وأصحاب المصالح هم أكبرمستفيد مما يحدث، فبدأ الناس يجادلونه ويصدّونه عما يفعل، ولم يستطع يحيىبن إبراهيم الجُدالي زعيم القبيلة أن يحميه، وذلك لأن الشعب كان لا يعرفالفضيلة، وفي ذات الوقت كان رافضًا للتغيير، ولو أصر يحيى بن إبراهيمالجُدالي على موقفه هذا لخلعه الشعب ولخلعته القبيلة
لميقنط الشيخ عبد الله بن ياسين، وحاول المرة تلو المرة، فبدأ الناس يهددونهبالضرب، وحين استمرّ على موقفه من تعليمهم الخير وهدايتهم إلى طريق ربالعالمين، قاموا بضربه ثم هددوه بالطرد من البلاد أو القتل
لميزدد موقف الشيخ إلا صلابة، ومرّت الأيام وهو يدعو ويدعو حتى قاموا بالفعلبطرده من البلاد، ولسان حالهم: دعك عنا، اتركنا وشأننا، ارجع إلى قومكفعلمهم بدلًا منا، دع هذه البلاد تعيش كما تعيش فليس هذا من شأنك، وكأنيأراه رأي العين وهو يقف خارج حدود القبيلة وبعد أن طرده الناس، تنحدردموعه على خدّه، ويقول مشفقًا على قومه: [ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ]{ يس: 26}.
يريدأن يغيّر ولا يستطيع، أنْفس تتفلت منه إلى طريق الغواية والانحراف عنالنّهج القويم ولا سبيل إلى تقويمها، حزّ في نفسه أن يولد الناس في هذهالبلاد فلا يجدون من يعلمهم ويرشدهم، فأراد أن يبقى ولكن كيف يبقى؟ أيدخلجُدالة من جديد؟ لكنهم سيقتلونه، ولو كان في ذلك صلاحًا لهم فأهلا بالموت،لكن هيهات ثم هيهات...
عبد الله بن ياسين ونواة دولةالمرابطين :
جلسرحمه الله يفكر ويفكر ثم هداه ربه سبحانه وتعالى، فما كان منه إلا أنتعمّق في الصحراء ناحية الجنوب بعيدًا عن الحواضر والمدنية، حتى وصل إلىشمال السنغال (التي لا نعرف عنها سوى فريقها القومي، رغم كونها بلدًاإسلاميًا كبيرًا، حيث أكثر من 90 % من سكانه من المسلمين).
وهناكوفي شمال السنغال اعتزلهم عبد الله بن ياسين، متنسكًا في جزيرة، قال ابنخلدون - كما نقل عنه الزركلي في الأعلام جـ 8 / ص 160-: " يحيط بها النيل،ضحضاحًا في الصيف، يخاض بالاقدام، وغمرًا في الشتاء يعبر بالزوارق " صنعخيمة بسيطة له وجلس فيها وحده، ثم بعث برسالة إلى أهل جُدالة في جنوبموريتانيا، تلك التي أخرجه أهلُها منها يخبرهم فيها بمكانه، فمن يريد أنيتعلم العلم فليأتني في هذا المكان
كانمن الطبيعي أن يكون في جُدالة بعض الناس خاصّة من الشباب الذين تحرّكتقلوبهم وفطرتهم السوّية لهذا الدين، لكنّ أصحاب المصالح ومراكز القوى فيالبلاد كانوا يمنعونهم من ذلك، فحين علموا أنهم سيكونون بعيدين عن قومهم،ومن ثَمّ يكونون في مأمن مع شيخهم في أدغال السنغال، تاقت قلوبهم إلىلقياه، فنزلوا من جنوب موريتانيا إلى شمال السنغال، وجلسوا مع الشيخ عبدالله بن ياسين ولم يتجاوز عددهم في بادئ الأمر الخمسة نفر...!!
وفيخيمته وبصبر وأناة شديدين أخذ الشيخ عبد الله بن ياسين يعلّمهم الإسلامكما أنزله الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وكيف أنالإسلام نظام شامل متكامل ينتظم كل أمور الحياة، وبدأ يعلمهم العقيدةالصحيحة، والجهاد في سبيل الله، وكيف يركبون الخيل ويحملون السيوف، وكيفيعتمدون على أنفسهم في مطعمهم ومشربهم، وكيف ينزلون إلى الغابات فيصطادونالصيد ويأتون به إلى الخيمة يطبخونه ويأكلونه ولا يستجدون طعامهم ممن حوله ممن الناس.
ذاقالرجال معه حلاوة الدين، ثم شعروا أن من واجبهم أن يأتوا بمعارفهموأقربائهم وذويهم، لينهلوا من هذا المعين، ويتذوقوا حلاوة ما تذوقوه،فذهبوا إلى جُدالة - وكانوا خمسة رجال - وقد رجع كل منهم برجل فأصبحواعشرة، ثم زادوا إلى عشرين، وحين ضاقت عليهم الخيمة أقاموا خيمة ثانيةفثالثة فرابعة، وبدأ العدد في ازدياد مستمر.
هذاولم يملّ الشيخ عبد الله بن ياسين تعليمهم الإسلام من كل جوانبه، وكانيكثر من تعليمهم أنه إذا ما تعارض شيء مع القرآن أو السنة فلا ينظر إليه،وأنه لا بدّ من المحافظة على هذه الأصول، فالقرآن الكريم والسنة المطهرّةمرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام.
تربية المرابطين علىمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم :
مع كثرةالخيام وازدياد العدد إلى الخمسين فالمائة فالمائة وخمسين فالمائتين، أصبحمن الصعب على الشيخ توصيل علمه إلى الجميع، فقسمهم إلى مجموعات صغيرة،وجعل على كل منها واحدًا من النابغين، وهو نفس منهج رسول الله صلى اللهعليه وسلم بداية من دار الأرقم بن أبي الأرقم، وحين كان يجلس صلى اللهعليه وسلم مع صحابته في مكة يعلمهمالإسلام، ومرورًا ببيعة العقبة الثانية حين قسم الاثنين والسبعين رجلًا منأهل المدينة المنورة إلى اثني عشر قسمًا، وجعل على كل قسم (خمسة نفر) منهمنقيبًا عليهم، ثم أرسلهم مرة أخرى إلى المدينة المنورة حتى قامت للمسلميندولتهم.
وهكذا أيضًاكان منهج الشيخ عبد الله بن ياسين، حتى بلغ العدد في سنة 440 هـ= 1048 م،بعد أربعة أعوام فقط من بداية دعوته ونزوحه إلى شمال السنغال إلى ألف نفسمسلمة
[نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِالمُؤْمِنِينَ] {الصَّف:13}.
فبعد أن طُردالرجل وأُوذي في الله وضُرب وهُدّد بالقتل، إذا به ينزل بمفرده إلى أعماقالصحراء حتى شمال السنغال وحيدًا طريدًا شريدًا، ثم في زمن لم يتعدىالأربع سنوات يتخرج من تحت يديه ألف رجل على أفضل ما يكون من فهم الإسلاموفقه الواقع.
وفي قبائل صنهاجة المفرّقة والمشتتة توزّع هؤلاء الألف الذين كانواكما ينبغي أن يكون الرجال، فأخذوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يعلمون الناسالخير ويعرفونهم أمور دينهم، فبدأت جماعتهم تزداد شيئًا فشيئًا، وبدأالرقم يتخطىحاجز الألف إلى مائتان وألف ثم إلى ثلاثمائة وألف، يزداد التقدم ببطء لكنه تقدمملموس جدًا.
معنى المرابطين
أصل كلمة الرباط هي ما تربط به الخيل، ثم قيل لكل أهل ثغر يدفع عمنخلفه رباط، فكان الرباط هو ملازمة الجهاد،روي البخاريبسنده عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّرَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رِبَاطُيَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا..." الحديث
ولأن المرابطين أو المجاهدين كانوا يتخذون خيامًا على الثغور يحمونفيها ثغور المسلمين، ويجاهدون في سبيل الله، فقدتَسمى الشيخعبد الله بن ياسين ومن معه ممن كانوا يرابطون في خيام على نهر السنغالبجماعة المرابطين، وعُرفوا في التاريخ بهذا الاسم.
كما تطلِقعليهم بعض المصادر الملثمين فيُقال أمير الملثمين ودولة الملثمين، ويرجعسبب هذه التسمية كما يذكر ابن خلّكان في وفيات الأعيان إلى أنهم قوميتلثمون ولا يكشفون وجوههم، فلذلك سموهم الملثمين، وذلك سنّة لهميتوارثونها خلفاً عن سلف، وسبب ذلك على ما قيل أن "حمير" كانت تتلثم لشدةالحرّ والبرد يفعله الخواص منهم، فكثر ذلك حتى صار يفعلهعامتهم. وقيل كان سببه أن قوماً من أعدائهم كانوا يقصدون غفلتهم إذا غابواعن بيوتهم فيطرقون الحي فيأخذون المال والحريم، فأشار عليهم بعض مشايخهمأن يبعثوا النساء في زي الرجال إلى ناحية ويقعدوا هم في البيوت ملثمين فيزي النساء، فإذا أتاهم العدو ظنّوهم النساء فيخرجون عليهم، ففعلوا ذلكوثاروا عليهم بالسيوف فقتلوهم، فلزموا اللثام تبركاً بما حصل لهم من الظفربالعدو.
وقال شيخناالحافظ عز الدين ابن الأثير في تاريخه الكبير ما مثاله: وقيل إن سبباللثام لهم أن طائفة من لَمْتونة خرجوا مغيرين على عدو لهم فخالفهم العدوإلى بيوتهم، ولم يكن بها إلا المشايخ والصبيان والنساء، فلما تحقق المشايخأنهالعدو أمرواالنساء أن تلبس ثياب الرجال ويتلثمن ويضيقنه حتى لا يعرفن، ويلبسن السلاح،ففعلن ذلك، وتقدم المشايخ والصبيان أمامهن واستدار النساء بالبيوت، فلماأشرف العدو رأى جمعاً عظيماً فظنه رجالاً وقالوا: هؤلاء عند حريمهميقاتلون عنهن قتال الموت، والرأي أن نسوق النعم ونمضي، فإن اتبعوناقاتلناهم خارجاً عن حريمهم، فبينما هم في جمعالنعممن المراعي إذ أقبل رجال الحي، فبقي العدو بينهم وبين النساء، فقتلوا منالعدو وأكثروا وكان من قبل النساء أكثر، فمن ذلك الوقت جعلوا اللثام سنّةيلازمونه فلا يُعرف الشيخ من الشاب ولا يزيلونه ليلاً ولا نهاراً.
ومما قيل في اللثّام:
قومٌ لهم درك العلا في حمير وإن انتموا صنهاجة فهم هم
لما حووا إحراز كل فضيلة غلب الحيـاء عليهم فتلثمو. هـ
كيف كانت الحياة فيالرباط :
كان هذاالرباط الذي أقامه الداعية الرباني الفقيه عبد الله بن ياسين بمثابة جامعةعظيمة تخرّج فيها الكثير من القادة والمربين على يد هذا الشيخ الجليل وعلىيد من تربوا على يديه، ولنقترب أكثر من الشيخ وتلامذته في هذا الرباط لنرىحياتهم عن قرب ونعيش بعض مواقفهم ونعرف أسلوب حياتهم في هذا المكان...
أولًا:كان المقبلون على الشيخ في هذا المكان البعيد عن العمران هم الصفوة من بينأهل تلك البلاد التي رفض أهلها بقاء الشيخ بينهم، ورفضوا دعوته اتباعًالأهوائهم وإيثارًا لدنياهم على آخرتهم، فكان هؤلاء الصفوة الذين انقطعواإلى الشيخ وتركوا أهلهم وذويهم أهلًا لأن يتربوا على يد هذا المربىالعظيم، بل كانوا أهلًا لأن يكون أساتذةً لجيل المرابطين المجاهدين بعدذلك...
ثانيًا:بدأ الشيخ المربي العظيم عبد الله بن ياسين يعلّم هؤلاء الصفوة ويربيهمعلى الأسس الإسلامية الصحيحية وعلى الفهم الشامل العميق للإسلام، وكانتتربيته عملية لا نظرية فهم يطبّقون ما يتعلمونه على الفور، وكان الشيخبفهمه الواضح ونظرته الثاقبة يعرف أولولياته ويرتّبها ولا يستعجل الخطى بليسير مع تلامذته في أناة شديدة حتى يكون النضج على أحسن ما يكون.
ثالثًا:عاش هذا الجيل من المرابطين في هذا المكان - الرباط - حياة الجهاد والتقشفوكان يعتمدون إلى حدٍّ كبير على الصيد ويقتسمون بينهم ما يرزقهم الله بهويؤثرون بعضهم بعضًا، وربما آثر أحدهم أن ينام جائعًا ويطعم أخاه، فقدأصّل الشيخ فيهم معاني الإيثار والحب في الله والأخوة الإسلامية...قالصاحب كتاب (دولة المرابطين): "وكان أهل الرباط في قمة من الصفاء الروحي،ويعيشون حياة مثالية في رباطهم فيتعاونون على قوتهم اليومي معتمدين على ماتوفره لهم جزيرتهم من الصيد البحري يقنعون بالقليل من الطعام، ويرتدونالخشن من الثياب".
وإن هذه النماذج لتذكرنا بالجيل الأول الذي رباه الرسول الكريم محمد صلى اللهعليه وسلم والذين قال الله فيهم: [لِلْفُقَرَاءِالْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْيَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَوَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] {الحشر 8} ولا عجب فإنعبد الله بن ياسين رحمه الله قد اتّبع في تّرْبية تلاميذه من المرابطينالمنهج النبوي العظيم الذي اتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت تلكثمرته المرجوّة، ومتى اتبع المربّون والمعلّمون هذا المنهج في بناءالأجيال الإسلامية فليس هناك من شك أن هذه الأجيال سترفع راية الإسلامعالية خفّاقة على ربوع العالم كله وسيُعيد المسلمون كل ما افتقدوه من أرضومقدسات، فهل من مجيب؟!
رابعًا:جمع الشيخ في تربيته للمرابطين بين تربيته لنفوسهم وأرواحهم على الصفاءوالنقاء والطاعة لله وبين تربية أجسادهم على القوة والمتانة وتحمّل الصعابوذلك لأنه يعدّهم لأمر مهم وخطب جلل لا يصلح له إلا من تربى عقلُه علىالعلم والفقه وروحه على الصفاء والنقاء وجسدُه على الخشونة وقوّة التحمّل.
خامسًا:تدرّج الشيخ - رحمه الله - في بناء القوة في تلامذته المرابطين فبدأبتأصيل العقيدة الصحيحة في نفوسهم ولم يكن الشيخ يكثر في ذلك من مطالعةالعلوم الكلامية والخلافات بين الفرق والتقعّر والتعمّق في أمور لا طائلمن ورائها وإنما كان يربي عندهم العقيدة السليمة من خلال التفكر في خلقالله ونعمِهِ ومن خلال العبادة الدائمة من ذكر وصيام وقيام وتهجدوتلاوة للقرآن...وفي خطٍ موازٍ لتأصيل العقيدة الصحيحة في النفوس كانالشيخ - رحمه الله - يبني في جانب آخر من جوانب القوة ألا وهو قوة الإخاءوالحب فيما بين المرابطين وهو جانب لا يستهان به بحال من الأحوال، فقوةالأخوة في الله ينبني عليها الكثير من مقوّمات النصر والتمكين، ويحسنُ بهاالترابط بين الجنود فيؤثر كل منهم صاحبه على نفسه، ويفتديه بما يستطيع،ويسمع له ويطيع - إن أُمّر عليه - في المنشط والمكره انطلاقًا من هذا الحب وتلكالأخوة...
ومعهاتين القوتين اللّتين حرص الشيخ على بنائهما في جنوده المرابطين لم يكن - رحمه الله - ليُغفل جانبًا مهمًّا من جوانب القوّة ألا وهو قوّة الساعدوالسلاح فقد كان الشيخ - رحمه الله - وكما ذكرنا سابقًا يربى تلامذته علىالخشونة في المطعم والملبس كما كانوا يتدربون أيضًا على فنون القتالالمختلفة استعدادًا لما ينتظرهم من أمور عظيمة، بها عزّ الإسلام ونصرةالمسلمين.
وقد انطلق الشيخ - رحمه الله - في كل هذه الأمور من قول الله تعالى [وَأَعِدُّوالَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِتُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْدُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ] {الأنفال 60}.
إن من يقرأعن الشيخ عبد الله بن ياسين والمرابطين الذين كانوا معه قراءة عابرة يظنأنهم جماعة من الناس اعتزلوا قومهم ليعبدوا الله بعيدًا عن ضوضاء العمرانومشاكل الناس فحسب، ولم يكن الأمر كذلك على الإطلاق بل كان هذا الاعتزالجزءًا من خطة كبيرة يتم تنفيذها خطوة بعد خطوة بفهم سليم وعمق في التفكيرودقة في التخطيط وبراعة في التنفيذ.
ومما يلفتالنظر كذلك في هذا الرباط المبارك الدقة العالية في التنظيم والتي اتبعهاالشيخ ونفذها في هذا الرباط فقد قسّم الشيخ مَن معه إلى مجموعات كثيرة جعلعلى كلٍ منها واحدًا يعلمهم ويفقههم ويربيهم وعن طريقه تصل إليهم تعليماتالشيخ وتوجيهاته، كما تم تقسيم قادة هذه المجموعات إلى مجموعات أخرى علىكلٍ منها أحد النابغين الأذكياء وهكذا يكبر هذا الهرم ليكون في قمّتهالشيخ المربي - رحمه الله - يصدر تعليماته فتصل إلى الجميع في انسيابوسهولة دون تعقيد أو تغيير...
كوّن الشيخ - رحمه الله - من نجباء تلاميذه مجلسًا للشورى، كما شكّل إدارات متعددةلتقوم بأمر الرباط والمرابطين، خاصة بعد أن أن صاروا من الكثرة بمكان...
بين المرابطين في الثغوروالمرابطين في مرج الزهور :
تذكرنا نشأةالمرابطين هذه بقضيتنا المعاصرة - قضية فلسطين - فعندما أبعد الصهاينة فيديسمبر 1992 م ما يزيد على أربعمائة من إخواننا في فلسطين، من بينهم أكثرمن 200 من خطباء المساجد ومن بينهم أساتذة جامعات، وأطباء، ومهندسون،وصيادلة، ومدرسون، وطلاب...
لقد أراد اليهود بإبعاد هؤلاء الصفوة أن يفرّغوا فلسطين من رجالاتها حتى تصفولهم وطنًا، وحتى لا يعكّر حياتهم هؤلاءالمجاهدون، فتآمروا لإبعادهم إلى لبنان ومن ثَمّ تلحق بهم أسرهم وأهليهموتكون الحطة الصهيونية قد نجحت، ولكن المجاهدين فقهوا الأمر جيدًا وأبواأن يدخلوا لبنان وعسكروا في مكان سمّوه "مرج الزهور" وهي أقرب قرية إلىالمكان الذي تم إبعادهم إليه - وكانت القرية السنيّة الوحيدة في تلكالمنطقة - وكانت تلك المنطقة معسكرًا سابقًا للجيش اليهودي وكان المكانمزودًا بالطرق والشوارع المرصوفة، وبالقرب منه عين ماء وهو في منطقة فيغاية الروعةوالجمال...
يقول أحدالذين كانوا مع المبعدين: كان مخيم المبعدين أشبه بالدولة المصغرة فقد قسمللجان مختلفة منها: اللجنة الإعلامية التي يترأسها د. عبد العزيزالرنتيسي- رحمه الله- المتحدث باسم المبعدين باللغة العربية والدكتور عزيزدويك المتحدث باللغة الإنجليزية، وكانت مهمة هذه اللجنة الحديث مع وسائلالإعلام العربية والعالمية، وهناك أيضا اللجنةالماليةواللجنة الاجتماعية واللجنة الرياضية ولجنة الدعوة وغيرها من اللجانالفاعلة، وقمنا كذلك بتأسيس جامعة تضم مختلف العلوم أسميناها "جامعة ابنتيمية"، وكان هناك دورات التجويد وحفظ القرآن ودورات الكراتية والخطوالخطابة ودورات باللغة الإنجليزية وغيرها الكثير من الخبرات والعلوم التيتلقينها أثناء فترة الإبعاد والتي ساهمت بإكسابنا العديد من المهاراتوالعلوم الدينية والدنيوية.
أما عنالمبعدين فقد كانوا من مختلف الشرائح الاجتماعية منهم الطبيب والمهندسوالشيخ والعامل والموظف والقاضي والتاجر، وكانت تضم خيرة أبناء شعبنا فيالضفة الغربية وقطاع غزة.
وقالالعائدون من مرج الزهور: إن رحلة الإبعاد عادت عليهم بالخير الكبير علىعكس ما أراد الاحتلال، ويذكر الأستاذ حسني البوريني ذلك بالقول: "أرادتالحكومة (الإسرائيلية) من عملية الإبعاد إيقاف المقاومة وأضعاف الحركةالإسلامية بإبعاد رجالاتها، إلا أن إرادة الله فوق كل اعتبار فحولناالمنحة إلى محنة زادت من رصيد الحركة الإسلامية ليستالفلسطينيةفحسب بل العالمية، فقد دخل بعض زوار المخيم من الصحفيين في الإسلام منخلال حسن تعاملنا، ومن خلال عملية الإبعاد وصل صوت الحركة الإسلامية إلىأكثر من 100 دولة من خلال جيش الصحفيين والتي كانت الوفود منهم يومية،فعرضنا وجهة نظرنا وأسمعنا العالم صوتنا، وعرف العالم حقيقة الحكومةالصهيونية التي تدعي حماية حقوق الإنسان.
ويتذكر الشيخ داود أبو سير عدداً كبيراً من رفاق رحلة الإبعاد الذين هم الآن إماشهداء مثل الشيخين جمال سليم وجمال منصوروصلاح دروزة والدكتور عبد العزيز الرنتيسي والعشرات غيرهم، وإما أسرى فيسجون الاحتلال مثل الشيخ أحمد الحاج علي، وجمال أبو الهيجاء وحسن يوسف،ويجمع المتحدثون على أن أكثر الشخصيات التي تأثروا بها هيشخصيةالدكتور عبد العزيز الرنتيسي الذي كان يستقبل الوفود الأجنبية والعربية،وكان ذو روح مرحة، يوصل الليل بالنهار لخدمة إخوانه...
تعنيالقيام باتخاذ خيامًا على ثغور المسلمين لحمايتها والدفاع عنها، ومن هناأطلق عليهم اسم المرابطين. ويُنسب المرابطون إلى قبيلة جدالة بموريتانيا.
كيف تحولوا من قمة الفساد إلى هذا الصلاح؟ وكيف بلغت هذه القوة؟
كانت أوضاع جدالة في منتهى الفساد والانحلال، ففكر قائدهم يحيى بن إبراهيم: ماذا يفعل ليصلح أحوال قبيلته؟ فاستدعى رجلاً يدعى عبد الله بن ياسين لكييعظ هؤلاء الناس، وتنشأ دولة المرابطين من هذه الدعوة. وبعد وفاة عبد اللهبن ياسين في سنة 451 هـ/ 1059م، يتولى أبو بكر بن عمر اللمتوني زعامةالمرابطين بعد أن كان قد انضم هو وقبيلته إلى المرابطين، ويزداد أعدادالمرابطين في عهده، وتتوسع الدولة، وينيب عنه ابن عمه يوسف بن تاشفينزعيمًا على المرابطين، ويذهب لنشرالإسلامفي السنغال وغيرها من بقاع إفريقيا. أما يوسف بن تاشفين فلقد حارب حاييمبنمنّ الله، وحارب صالح بن طريف؛ لأنهم ادَّعوا النبوة، وبدأ ينشرالإسلام، حتى عاد أبو بكر بن عمر اللمتوني، فلما وجد يوسف بن تاشفين وقدنشر الإسلام وحارب أعداء الدين؛ فتنازل له عن الحكم وذهب إلى إفريقيا لنشرالإسلام، وقبل وفاته كانت دولة المرابطين تسيطر على ثلث إفريقيا.
المرابطون بالأندلس:
فيسنة 478 هـ/ 1085م يعبر يوسف بن تاشفين إلى الأندلس ويتحد مع الأندلسيينويهزم ألفونسو السادس في موقعة "الزَّلاَّقة" من أشهر مواقع التاريخالإسلامي، ويوحد المغرب والأندلس تحت راية واحدة، وبعد وفاة يوسف بنتاشفين حرر المسلمون الكثير من الأراضي الإسلامية المحتلة.
ولكن هل تنتهي دولة المرابطين؟
نعم،كان لا بد من نهاية لهذه الدولة، ويعود السبب في ذلك إلى الفتنة بالدنياوالأموال، وانشغال المرابطين بالأمورالخارجية عن الأمور الداخلية، وكثرةالذنوب سواء في بلاد المغرب أو في الأندلس، وتعمق العلماء في الفروع دونالأصول. ومن العوامل المسئولة عن الانهيار أيضًا حدوث أزمة اقتصادية فيآخر عهد المرابطين؛ بسبب البعد عن الطريق الصحيح.
مزيد من التفاصيل
مَنْ هُم المُرَابِطُون؟
قبيلة جُدَالة وأصل المرابطين
كانالتاريخ هو سنة 478 هـ= 1085 م، حيث سقطت طُلَيْطِلَة، وحوصرتإِشْبِيلِيّة، وعُقد مؤتمر القمة، ومن هذا التاريخ نعود إلى الوراء ثمانيةوثلاثين عامًا، وبالتحديد في 440 هـ= 1048 م حيث أحداث "بربشتر" و"بلنسية" السابقة، لنكون مع بداية تاريخ المرابطين.
وكماغوّرنا في أعماق التاريخ، نعود ونغوّر في أعماق صحراء موريتانيا البلدالإسلامي الكبير، وبالتحديد في الجنوب القاحل، حيث الصحراء الممتدة،والجدب المقفر، والحرّ الشديد، وحيث أناس لا يتقنون الزراعة ويعيشون علىالبداوة.
فيهذه المناطق كانت تعيش قبائل البربر، ومن قبائل البربر الكبيرة كانت قبيلة "صنهاجة"، وكانت قبيلتي "جُدَالَة ولَمْتُونة" أكبر فرعين في "صنهاجة"...
كانت "جُدَالة" تقطن جنوب موريتانيا، وكانت قد دخلت في الإسلام منذ قرون، وكانعلى رأس جدالة رئيسهم يحيى بن إبراهيم الجدالي، وكان لهذا الرجل فطرةسوّية وأخلاق حَسَنة.
نظريحيى بن إبراهيم في قبيلته فوجد أمورًا عجيبة (كان ذلك متزامنًا مع مأساةبربشتر وبلنسية)، وجد الناس وقد أدمنوا الخمور، وألِفوا الزنى، حتى إنالرجل ليزني بحليلة جاره ولا يعترض جاره، تمامًا كما قال سبحانه وتعالى فيكتابه الكريم: [وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المُنْكَرَ]{العنكبوت:29}.
ولماذا يعترض الجار وهو يفعل نفس الشيء مع جاره؟!
فقدفشى الزنى بشكل مريع في جنوب موريتانيا في ذلك الزمن، وكثر الزواج من أكثرمن أربعة، والناس ما زالوا مسلمين ولا ينكر عليهم أحد ما يفعلونه، فالسلبوالنهب هو العرف السائد، القبائل مشتتة ومفرقة، القبيلة القوية تأكلالضعيفة، والوضع شديد الشبه بما يحدث في دويلات الطوائف، بل هو أشدّ وأخزى.
((وكانالمغرب الأقصى في ذلك الوقت في محنة سياسية ودينية، حيث ظهرت دعوات منحرفةعن الإسلام وحقيقته وجوهره الأصيل، واستطاعت بعض الدعوات الكفرية أن تشكلكيانًا سياسيًا تحتمي به))... د. الصلابي - الجوهر الثمين بمعرفة دولةالمرابطين
لقدكانت هذه الأوضاع سواء في بلاد الأندلس أو في موريتانيا أشد وطأةً مما نحنعليه الآن، فلننظر كيف يكون القيام، ولنتدبّر تلك الخطوات المنظّمة والتيسار أصحابها وفق منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء الدولة وإصلاحأحوال الأمة...
يحيى بن إبراهيم يحمل هَمّ المسلمين
كان يحيى بن إبراهيم الجُدالي صاحب الفطرة النقيّة يعلم أن كلّ ما يفعله قومه من المنكرات، لكنه لم يكن بمقدوره التغيير؛فالشعب كله في ضلال وعمى، وبعيد كل البعد عن الدين، كما أن الرجل نفسه لا يملك من العلم ما يستطيع به أن يغيّر الناس.
وبعد حيْرة وتفكّر هداه ربُّه لأن يذهب إلى الحج، ثم وهو في طريق عودته يُعرّج على حاضرة الإسلام في المنطقة وهي مدينة القيروان (في تونس الآن)، فيكلّم علماءَها المشهورين بالعلم لعلّ واحدًا منهم أن يأتي معه فيُعلّم قبيلته الإسلام.
وبالفعلذهب إلى الحج وفي طريق عودته ذهب إلى القيروان، وقابل هناك أبا عمران موسىبن عيسى الفاسي (368 - 430 هـ= 979 - 1039 م )، وهو شيخ المالكية في مدينةالقيروان (كان المذهب المالكي هو المنتشر في كل بلاد الشمال الإفريقي وإلىعصرنا الحاضر، كما كان هو المذهب السائد في بلاد الأندلس)، قال عنهالحميدي صاحب جذوة المقتبس في ذكر ولاةالأندلس - (جـ 1 / صـ 121) موسى بن عيسى بن أبي حاج واسم أبي حاج: يحج أبو عمرانالفاسي، فقيه القيروان، إمام في وقته دخل الأندلس وله رحلة إلى المشرق،وصل فيها إلى العراق، فمن مشايخه بالأندلس أبو الفضل أحمد بن قاس بن عبدالرحمنصاحب قاسم بن أصبغ، وأبو زيد عبد الرحمن بن يحيى العطار، وأبو عثمان سعيدبن نصر، وسمع بالقيروان من أبي الحسن علي بن محمد بن خلف القابسي وغيره،وبمصر من أبي الحسين عبد الكريم بن أحمد ابن أبي جدار وغيره، وبمكة من أبيالقاسم عبيد الله بن محمد بن أحمد السفطي وغيره، والعراق من أبي الفضلعبيد الله بن عبد الرحمن الزهري وغيره؛ وكان مكثراً عالماً...
وقال عنه الحِميري صاحب الروض المعطار في خبر الأقطار - (جـ 1 / ص 435): الفقيه الإمام المشهور بالعلْم والصلاح...
وقالعنه ابن فرحون صاحب الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب - (جـ 1 / ص 172) قال حاتم بن محمد: كان أبو عمران من أحفظ الناس وأعلمهم جمع حفظالمذهب المالكي إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة معانية وكانيقرأ القرآن بالسبع ويجوده مع معرفته بالرجال وجرحهم وتعديلهم.
فلماالتقى به يحيى بن إبراهيم الجدالي حكى له قصته وسأله عن الدواء، فما كانمن أبي عمران الفاسي إلا أن أرسل معه شيخًا جليلًا يعلّم النّاس أموردينهم.
تُـرى من هو هذاالشيخ؟!
كانعبد الله بن ياسين ( الزعيم الاول للمرابطين، وجامع شملهم، وصاحب الدعوةالإصلاحية فيهم. ت451 هـ= 1059 م) من شيوخ المالكية الكبار، له طلاب علمكثيرون في أرض المغرب والجزائر وتونس، كانوا يأتون إليه ويستمعون منه،وكان يعيش في حاضرة من حواضر الإسلام على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وهاهو يقبل القيام بهذه المهمة الكبيرة، وفضّل أن يُغوّر في الصحراء ويترك كلما هو فيه ليعلّم الناس الإسلام، ويقوم بمهمة الأنبياء والرسل، وهي الدعوةإلى الله سبحانه وتعالى.
لميكن عبد الله بن ياسين فقيهًا فحسب وإنما استوعب العلوم والمناهج التيكانت في زمانه من أصول وفقه وحديث ولغة وغير ذلك وعاش تجارب كثيرة وأحاطبالكثير من مجريات الأمور التي تدور حوله، إضافة إلى ذلك اتصف ابنُ ياسينرحمه الله بالكثير من الصفات الأخلاقية والقيادية منها ما كان فطريًاومنها ما اكتسبه بمجاهدته لنفسه وطول عبادتهلربه، وهذه الأمور مجتمعةً جعلته أهلًا لأن يحمل هذه الأمانة العظيمةوجعلته حريًا أن يختاره شيوخه للقيام بهذه المهمة العظيمة في ذلك الوقتالعصيب من تاريخ تلك المنطقة لتصبح بعد سنواتٍ قليلة منبعَ الخير للأمةكلها ومحضنَ المجاهدين وقبلة الراغبين في الجنة...
ومنأهمّ ما يميّز الشيخ أيضًا فهمه للواقع وأخذه بفقه الأولويات ومعرفة هدفهوالعمل له بجدٍ واجتهادٍ وهمةٍ عاليةٍ وعزيمة صادقة، دون الصدام مع منيريدون لدعوته الفناء حرصًا على مصالح شخصية ومنافع دنيوية وأهداف دنيئة...
عبد الله بن ياسين ومهمّةالأنبياء :
اتّجهالشيخ عبد الله بن ياسين صَوْب الصحراء الكبرى، مخترقًا جنوب الجزائروشمال موريتانيا حتى وصل إلى الجنوب منها، حيث قبيلة جُدَالة، وحيث الأرضالمجدِبة والحرّ الشديد، وفي أناةٍ شديدة، وبعد ما هالَه أمر الناس فيارتكاب المنكرات أمام بعضهم البعض ولا ينكر عليهم منكر، بدأ يعلم الناس،يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
كانالناس في جهل مطبق وبعدٍ تام عن الإسلام قال القاضي عياض في ترتيب المداركوتقريب المسالك - (جـ 2 / ص 64) واصفًا حال هؤلاء القوم في ذلك الوقت: كانالدين عندهم قليلاً، وأكثرهم جاهلية، ليس عند أكثرهم غير الشهادتين، ولايعرف من وظائف الإسلام سواهما
ولكن - وللأسف - ثار عليه أصحاب المصالح بل وثار عليه الشعب أيضًا، فالكل يريدأن يعيش في شهواته وملذاته ودون قيد أو شرط، وأصحاب المصالح هم أكبرمستفيد مما يحدث، فبدأ الناس يجادلونه ويصدّونه عما يفعل، ولم يستطع يحيىبن إبراهيم الجُدالي زعيم القبيلة أن يحميه، وذلك لأن الشعب كان لا يعرفالفضيلة، وفي ذات الوقت كان رافضًا للتغيير، ولو أصر يحيى بن إبراهيمالجُدالي على موقفه هذا لخلعه الشعب ولخلعته القبيلة
لميقنط الشيخ عبد الله بن ياسين، وحاول المرة تلو المرة، فبدأ الناس يهددونهبالضرب، وحين استمرّ على موقفه من تعليمهم الخير وهدايتهم إلى طريق ربالعالمين، قاموا بضربه ثم هددوه بالطرد من البلاد أو القتل
لميزدد موقف الشيخ إلا صلابة، ومرّت الأيام وهو يدعو ويدعو حتى قاموا بالفعلبطرده من البلاد، ولسان حالهم: دعك عنا، اتركنا وشأننا، ارجع إلى قومكفعلمهم بدلًا منا، دع هذه البلاد تعيش كما تعيش فليس هذا من شأنك، وكأنيأراه رأي العين وهو يقف خارج حدود القبيلة وبعد أن طرده الناس، تنحدردموعه على خدّه، ويقول مشفقًا على قومه: [ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ]{ يس: 26}.
يريدأن يغيّر ولا يستطيع، أنْفس تتفلت منه إلى طريق الغواية والانحراف عنالنّهج القويم ولا سبيل إلى تقويمها، حزّ في نفسه أن يولد الناس في هذهالبلاد فلا يجدون من يعلمهم ويرشدهم، فأراد أن يبقى ولكن كيف يبقى؟ أيدخلجُدالة من جديد؟ لكنهم سيقتلونه، ولو كان في ذلك صلاحًا لهم فأهلا بالموت،لكن هيهات ثم هيهات...
عبد الله بن ياسين ونواة دولةالمرابطين :
جلسرحمه الله يفكر ويفكر ثم هداه ربه سبحانه وتعالى، فما كان منه إلا أنتعمّق في الصحراء ناحية الجنوب بعيدًا عن الحواضر والمدنية، حتى وصل إلىشمال السنغال (التي لا نعرف عنها سوى فريقها القومي، رغم كونها بلدًاإسلاميًا كبيرًا، حيث أكثر من 90 % من سكانه من المسلمين).
وهناكوفي شمال السنغال اعتزلهم عبد الله بن ياسين، متنسكًا في جزيرة، قال ابنخلدون - كما نقل عنه الزركلي في الأعلام جـ 8 / ص 160-: " يحيط بها النيل،ضحضاحًا في الصيف، يخاض بالاقدام، وغمرًا في الشتاء يعبر بالزوارق " صنعخيمة بسيطة له وجلس فيها وحده، ثم بعث برسالة إلى أهل جُدالة في جنوبموريتانيا، تلك التي أخرجه أهلُها منها يخبرهم فيها بمكانه، فمن يريد أنيتعلم العلم فليأتني في هذا المكان
كانمن الطبيعي أن يكون في جُدالة بعض الناس خاصّة من الشباب الذين تحرّكتقلوبهم وفطرتهم السوّية لهذا الدين، لكنّ أصحاب المصالح ومراكز القوى فيالبلاد كانوا يمنعونهم من ذلك، فحين علموا أنهم سيكونون بعيدين عن قومهم،ومن ثَمّ يكونون في مأمن مع شيخهم في أدغال السنغال، تاقت قلوبهم إلىلقياه، فنزلوا من جنوب موريتانيا إلى شمال السنغال، وجلسوا مع الشيخ عبدالله بن ياسين ولم يتجاوز عددهم في بادئ الأمر الخمسة نفر...!!
وفيخيمته وبصبر وأناة شديدين أخذ الشيخ عبد الله بن ياسين يعلّمهم الإسلامكما أنزله الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وكيف أنالإسلام نظام شامل متكامل ينتظم كل أمور الحياة، وبدأ يعلمهم العقيدةالصحيحة، والجهاد في سبيل الله، وكيف يركبون الخيل ويحملون السيوف، وكيفيعتمدون على أنفسهم في مطعمهم ومشربهم، وكيف ينزلون إلى الغابات فيصطادونالصيد ويأتون به إلى الخيمة يطبخونه ويأكلونه ولا يستجدون طعامهم ممن حوله ممن الناس.
ذاقالرجال معه حلاوة الدين، ثم شعروا أن من واجبهم أن يأتوا بمعارفهموأقربائهم وذويهم، لينهلوا من هذا المعين، ويتذوقوا حلاوة ما تذوقوه،فذهبوا إلى جُدالة - وكانوا خمسة رجال - وقد رجع كل منهم برجل فأصبحواعشرة، ثم زادوا إلى عشرين، وحين ضاقت عليهم الخيمة أقاموا خيمة ثانيةفثالثة فرابعة، وبدأ العدد في ازدياد مستمر.
هذاولم يملّ الشيخ عبد الله بن ياسين تعليمهم الإسلام من كل جوانبه، وكانيكثر من تعليمهم أنه إذا ما تعارض شيء مع القرآن أو السنة فلا ينظر إليه،وأنه لا بدّ من المحافظة على هذه الأصول، فالقرآن الكريم والسنة المطهرّةمرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام.
تربية المرابطين علىمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم :
مع كثرةالخيام وازدياد العدد إلى الخمسين فالمائة فالمائة وخمسين فالمائتين، أصبحمن الصعب على الشيخ توصيل علمه إلى الجميع، فقسمهم إلى مجموعات صغيرة،وجعل على كل منها واحدًا من النابغين، وهو نفس منهج رسول الله صلى اللهعليه وسلم بداية من دار الأرقم بن أبي الأرقم، وحين كان يجلس صلى اللهعليه وسلم مع صحابته في مكة يعلمهمالإسلام، ومرورًا ببيعة العقبة الثانية حين قسم الاثنين والسبعين رجلًا منأهل المدينة المنورة إلى اثني عشر قسمًا، وجعل على كل قسم (خمسة نفر) منهمنقيبًا عليهم، ثم أرسلهم مرة أخرى إلى المدينة المنورة حتى قامت للمسلميندولتهم.
وهكذا أيضًاكان منهج الشيخ عبد الله بن ياسين، حتى بلغ العدد في سنة 440 هـ= 1048 م،بعد أربعة أعوام فقط من بداية دعوته ونزوحه إلى شمال السنغال إلى ألف نفسمسلمة
[نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِالمُؤْمِنِينَ] {الصَّف:13}.
فبعد أن طُردالرجل وأُوذي في الله وضُرب وهُدّد بالقتل، إذا به ينزل بمفرده إلى أعماقالصحراء حتى شمال السنغال وحيدًا طريدًا شريدًا، ثم في زمن لم يتعدىالأربع سنوات يتخرج من تحت يديه ألف رجل على أفضل ما يكون من فهم الإسلاموفقه الواقع.
وفي قبائل صنهاجة المفرّقة والمشتتة توزّع هؤلاء الألف الذين كانواكما ينبغي أن يكون الرجال، فأخذوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يعلمون الناسالخير ويعرفونهم أمور دينهم، فبدأت جماعتهم تزداد شيئًا فشيئًا، وبدأالرقم يتخطىحاجز الألف إلى مائتان وألف ثم إلى ثلاثمائة وألف، يزداد التقدم ببطء لكنه تقدمملموس جدًا.
معنى المرابطين
أصل كلمة الرباط هي ما تربط به الخيل، ثم قيل لكل أهل ثغر يدفع عمنخلفه رباط، فكان الرباط هو ملازمة الجهاد،روي البخاريبسنده عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّرَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رِبَاطُيَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا..." الحديث
ولأن المرابطين أو المجاهدين كانوا يتخذون خيامًا على الثغور يحمونفيها ثغور المسلمين، ويجاهدون في سبيل الله، فقدتَسمى الشيخعبد الله بن ياسين ومن معه ممن كانوا يرابطون في خيام على نهر السنغالبجماعة المرابطين، وعُرفوا في التاريخ بهذا الاسم.
كما تطلِقعليهم بعض المصادر الملثمين فيُقال أمير الملثمين ودولة الملثمين، ويرجعسبب هذه التسمية كما يذكر ابن خلّكان في وفيات الأعيان إلى أنهم قوميتلثمون ولا يكشفون وجوههم، فلذلك سموهم الملثمين، وذلك سنّة لهميتوارثونها خلفاً عن سلف، وسبب ذلك على ما قيل أن "حمير" كانت تتلثم لشدةالحرّ والبرد يفعله الخواص منهم، فكثر ذلك حتى صار يفعلهعامتهم. وقيل كان سببه أن قوماً من أعدائهم كانوا يقصدون غفلتهم إذا غابواعن بيوتهم فيطرقون الحي فيأخذون المال والحريم، فأشار عليهم بعض مشايخهمأن يبعثوا النساء في زي الرجال إلى ناحية ويقعدوا هم في البيوت ملثمين فيزي النساء، فإذا أتاهم العدو ظنّوهم النساء فيخرجون عليهم، ففعلوا ذلكوثاروا عليهم بالسيوف فقتلوهم، فلزموا اللثام تبركاً بما حصل لهم من الظفربالعدو.
وقال شيخناالحافظ عز الدين ابن الأثير في تاريخه الكبير ما مثاله: وقيل إن سبباللثام لهم أن طائفة من لَمْتونة خرجوا مغيرين على عدو لهم فخالفهم العدوإلى بيوتهم، ولم يكن بها إلا المشايخ والصبيان والنساء، فلما تحقق المشايخأنهالعدو أمرواالنساء أن تلبس ثياب الرجال ويتلثمن ويضيقنه حتى لا يعرفن، ويلبسن السلاح،ففعلن ذلك، وتقدم المشايخ والصبيان أمامهن واستدار النساء بالبيوت، فلماأشرف العدو رأى جمعاً عظيماً فظنه رجالاً وقالوا: هؤلاء عند حريمهميقاتلون عنهن قتال الموت، والرأي أن نسوق النعم ونمضي، فإن اتبعوناقاتلناهم خارجاً عن حريمهم، فبينما هم في جمعالنعممن المراعي إذ أقبل رجال الحي، فبقي العدو بينهم وبين النساء، فقتلوا منالعدو وأكثروا وكان من قبل النساء أكثر، فمن ذلك الوقت جعلوا اللثام سنّةيلازمونه فلا يُعرف الشيخ من الشاب ولا يزيلونه ليلاً ولا نهاراً.
ومما قيل في اللثّام:
قومٌ لهم درك العلا في حمير وإن انتموا صنهاجة فهم هم
لما حووا إحراز كل فضيلة غلب الحيـاء عليهم فتلثمو. هـ
كيف كانت الحياة فيالرباط :
كان هذاالرباط الذي أقامه الداعية الرباني الفقيه عبد الله بن ياسين بمثابة جامعةعظيمة تخرّج فيها الكثير من القادة والمربين على يد هذا الشيخ الجليل وعلىيد من تربوا على يديه، ولنقترب أكثر من الشيخ وتلامذته في هذا الرباط لنرىحياتهم عن قرب ونعيش بعض مواقفهم ونعرف أسلوب حياتهم في هذا المكان...
أولًا:كان المقبلون على الشيخ في هذا المكان البعيد عن العمران هم الصفوة من بينأهل تلك البلاد التي رفض أهلها بقاء الشيخ بينهم، ورفضوا دعوته اتباعًالأهوائهم وإيثارًا لدنياهم على آخرتهم، فكان هؤلاء الصفوة الذين انقطعواإلى الشيخ وتركوا أهلهم وذويهم أهلًا لأن يتربوا على يد هذا المربىالعظيم، بل كانوا أهلًا لأن يكون أساتذةً لجيل المرابطين المجاهدين بعدذلك...
ثانيًا:بدأ الشيخ المربي العظيم عبد الله بن ياسين يعلّم هؤلاء الصفوة ويربيهمعلى الأسس الإسلامية الصحيحية وعلى الفهم الشامل العميق للإسلام، وكانتتربيته عملية لا نظرية فهم يطبّقون ما يتعلمونه على الفور، وكان الشيخبفهمه الواضح ونظرته الثاقبة يعرف أولولياته ويرتّبها ولا يستعجل الخطى بليسير مع تلامذته في أناة شديدة حتى يكون النضج على أحسن ما يكون.
ثالثًا:عاش هذا الجيل من المرابطين في هذا المكان - الرباط - حياة الجهاد والتقشفوكان يعتمدون إلى حدٍّ كبير على الصيد ويقتسمون بينهم ما يرزقهم الله بهويؤثرون بعضهم بعضًا، وربما آثر أحدهم أن ينام جائعًا ويطعم أخاه، فقدأصّل الشيخ فيهم معاني الإيثار والحب في الله والأخوة الإسلامية...قالصاحب كتاب (دولة المرابطين): "وكان أهل الرباط في قمة من الصفاء الروحي،ويعيشون حياة مثالية في رباطهم فيتعاونون على قوتهم اليومي معتمدين على ماتوفره لهم جزيرتهم من الصيد البحري يقنعون بالقليل من الطعام، ويرتدونالخشن من الثياب".
وإن هذه النماذج لتذكرنا بالجيل الأول الذي رباه الرسول الكريم محمد صلى اللهعليه وسلم والذين قال الله فيهم: [لِلْفُقَرَاءِالْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْيَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَوَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] {الحشر 8} ولا عجب فإنعبد الله بن ياسين رحمه الله قد اتّبع في تّرْبية تلاميذه من المرابطينالمنهج النبوي العظيم الذي اتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت تلكثمرته المرجوّة، ومتى اتبع المربّون والمعلّمون هذا المنهج في بناءالأجيال الإسلامية فليس هناك من شك أن هذه الأجيال سترفع راية الإسلامعالية خفّاقة على ربوع العالم كله وسيُعيد المسلمون كل ما افتقدوه من أرضومقدسات، فهل من مجيب؟!
رابعًا:جمع الشيخ في تربيته للمرابطين بين تربيته لنفوسهم وأرواحهم على الصفاءوالنقاء والطاعة لله وبين تربية أجسادهم على القوة والمتانة وتحمّل الصعابوذلك لأنه يعدّهم لأمر مهم وخطب جلل لا يصلح له إلا من تربى عقلُه علىالعلم والفقه وروحه على الصفاء والنقاء وجسدُه على الخشونة وقوّة التحمّل.
خامسًا:تدرّج الشيخ - رحمه الله - في بناء القوة في تلامذته المرابطين فبدأبتأصيل العقيدة الصحيحة في نفوسهم ولم يكن الشيخ يكثر في ذلك من مطالعةالعلوم الكلامية والخلافات بين الفرق والتقعّر والتعمّق في أمور لا طائلمن ورائها وإنما كان يربي عندهم العقيدة السليمة من خلال التفكر في خلقالله ونعمِهِ ومن خلال العبادة الدائمة من ذكر وصيام وقيام وتهجدوتلاوة للقرآن...وفي خطٍ موازٍ لتأصيل العقيدة الصحيحة في النفوس كانالشيخ - رحمه الله - يبني في جانب آخر من جوانب القوة ألا وهو قوة الإخاءوالحب فيما بين المرابطين وهو جانب لا يستهان به بحال من الأحوال، فقوةالأخوة في الله ينبني عليها الكثير من مقوّمات النصر والتمكين، ويحسنُ بهاالترابط بين الجنود فيؤثر كل منهم صاحبه على نفسه، ويفتديه بما يستطيع،ويسمع له ويطيع - إن أُمّر عليه - في المنشط والمكره انطلاقًا من هذا الحب وتلكالأخوة...
ومعهاتين القوتين اللّتين حرص الشيخ على بنائهما في جنوده المرابطين لم يكن - رحمه الله - ليُغفل جانبًا مهمًّا من جوانب القوّة ألا وهو قوّة الساعدوالسلاح فقد كان الشيخ - رحمه الله - وكما ذكرنا سابقًا يربى تلامذته علىالخشونة في المطعم والملبس كما كانوا يتدربون أيضًا على فنون القتالالمختلفة استعدادًا لما ينتظرهم من أمور عظيمة، بها عزّ الإسلام ونصرةالمسلمين.
وقد انطلق الشيخ - رحمه الله - في كل هذه الأمور من قول الله تعالى [وَأَعِدُّوالَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِتُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْدُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ] {الأنفال 60}.
إن من يقرأعن الشيخ عبد الله بن ياسين والمرابطين الذين كانوا معه قراءة عابرة يظنأنهم جماعة من الناس اعتزلوا قومهم ليعبدوا الله بعيدًا عن ضوضاء العمرانومشاكل الناس فحسب، ولم يكن الأمر كذلك على الإطلاق بل كان هذا الاعتزالجزءًا من خطة كبيرة يتم تنفيذها خطوة بعد خطوة بفهم سليم وعمق في التفكيرودقة في التخطيط وبراعة في التنفيذ.
ومما يلفتالنظر كذلك في هذا الرباط المبارك الدقة العالية في التنظيم والتي اتبعهاالشيخ ونفذها في هذا الرباط فقد قسّم الشيخ مَن معه إلى مجموعات كثيرة جعلعلى كلٍ منها واحدًا يعلمهم ويفقههم ويربيهم وعن طريقه تصل إليهم تعليماتالشيخ وتوجيهاته، كما تم تقسيم قادة هذه المجموعات إلى مجموعات أخرى علىكلٍ منها أحد النابغين الأذكياء وهكذا يكبر هذا الهرم ليكون في قمّتهالشيخ المربي - رحمه الله - يصدر تعليماته فتصل إلى الجميع في انسيابوسهولة دون تعقيد أو تغيير...
كوّن الشيخ - رحمه الله - من نجباء تلاميذه مجلسًا للشورى، كما شكّل إدارات متعددةلتقوم بأمر الرباط والمرابطين، خاصة بعد أن أن صاروا من الكثرة بمكان...
بين المرابطين في الثغوروالمرابطين في مرج الزهور :
تذكرنا نشأةالمرابطين هذه بقضيتنا المعاصرة - قضية فلسطين - فعندما أبعد الصهاينة فيديسمبر 1992 م ما يزيد على أربعمائة من إخواننا في فلسطين، من بينهم أكثرمن 200 من خطباء المساجد ومن بينهم أساتذة جامعات، وأطباء، ومهندسون،وصيادلة، ومدرسون، وطلاب...
لقد أراد اليهود بإبعاد هؤلاء الصفوة أن يفرّغوا فلسطين من رجالاتها حتى تصفولهم وطنًا، وحتى لا يعكّر حياتهم هؤلاءالمجاهدون، فتآمروا لإبعادهم إلى لبنان ومن ثَمّ تلحق بهم أسرهم وأهليهموتكون الحطة الصهيونية قد نجحت، ولكن المجاهدين فقهوا الأمر جيدًا وأبواأن يدخلوا لبنان وعسكروا في مكان سمّوه "مرج الزهور" وهي أقرب قرية إلىالمكان الذي تم إبعادهم إليه - وكانت القرية السنيّة الوحيدة في تلكالمنطقة - وكانت تلك المنطقة معسكرًا سابقًا للجيش اليهودي وكان المكانمزودًا بالطرق والشوارع المرصوفة، وبالقرب منه عين ماء وهو في منطقة فيغاية الروعةوالجمال...
يقول أحدالذين كانوا مع المبعدين: كان مخيم المبعدين أشبه بالدولة المصغرة فقد قسمللجان مختلفة منها: اللجنة الإعلامية التي يترأسها د. عبد العزيزالرنتيسي- رحمه الله- المتحدث باسم المبعدين باللغة العربية والدكتور عزيزدويك المتحدث باللغة الإنجليزية، وكانت مهمة هذه اللجنة الحديث مع وسائلالإعلام العربية والعالمية، وهناك أيضا اللجنةالماليةواللجنة الاجتماعية واللجنة الرياضية ولجنة الدعوة وغيرها من اللجانالفاعلة، وقمنا كذلك بتأسيس جامعة تضم مختلف العلوم أسميناها "جامعة ابنتيمية"، وكان هناك دورات التجويد وحفظ القرآن ودورات الكراتية والخطوالخطابة ودورات باللغة الإنجليزية وغيرها الكثير من الخبرات والعلوم التيتلقينها أثناء فترة الإبعاد والتي ساهمت بإكسابنا العديد من المهاراتوالعلوم الدينية والدنيوية.
أما عنالمبعدين فقد كانوا من مختلف الشرائح الاجتماعية منهم الطبيب والمهندسوالشيخ والعامل والموظف والقاضي والتاجر، وكانت تضم خيرة أبناء شعبنا فيالضفة الغربية وقطاع غزة.
وقالالعائدون من مرج الزهور: إن رحلة الإبعاد عادت عليهم بالخير الكبير علىعكس ما أراد الاحتلال، ويذكر الأستاذ حسني البوريني ذلك بالقول: "أرادتالحكومة (الإسرائيلية) من عملية الإبعاد إيقاف المقاومة وأضعاف الحركةالإسلامية بإبعاد رجالاتها، إلا أن إرادة الله فوق كل اعتبار فحولناالمنحة إلى محنة زادت من رصيد الحركة الإسلامية ليستالفلسطينيةفحسب بل العالمية، فقد دخل بعض زوار المخيم من الصحفيين في الإسلام منخلال حسن تعاملنا، ومن خلال عملية الإبعاد وصل صوت الحركة الإسلامية إلىأكثر من 100 دولة من خلال جيش الصحفيين والتي كانت الوفود منهم يومية،فعرضنا وجهة نظرنا وأسمعنا العالم صوتنا، وعرف العالم حقيقة الحكومةالصهيونية التي تدعي حماية حقوق الإنسان.
ويتذكر الشيخ داود أبو سير عدداً كبيراً من رفاق رحلة الإبعاد الذين هم الآن إماشهداء مثل الشيخين جمال سليم وجمال منصوروصلاح دروزة والدكتور عبد العزيز الرنتيسي والعشرات غيرهم، وإما أسرى فيسجون الاحتلال مثل الشيخ أحمد الحاج علي، وجمال أبو الهيجاء وحسن يوسف،ويجمع المتحدثون على أن أكثر الشخصيات التي تأثروا بها هيشخصيةالدكتور عبد العزيز الرنتيسي الذي كان يستقبل الوفود الأجنبية والعربية،وكان ذو روح مرحة، يوصل الليل بالنهار لخدمة إخوانه...