يحيى بن عمر اللمتوني والمرابطون :
وفي سنة 445هـ= 1053 م يحدث ما هو متوقع وليس بغريب عن سنن الله سبحانه وتعالى فكماعهدنا أن من سنن الله سبحانه وتعالى أن يتقدم المسلمون ببطء في سلّمالارتفاع والعلو، ثم يفتح الله عليهم بشيء لم يكونوايتوقعونه،وكما حدث للمسلمين - كما ذكرنا - في عهد عبد الرحمن الناصر من دخول سرقسطةوموت عمر بن حفصون، أيضا في هذه البلاد تحدث انفراجة كبيرة، ويقتنع بفكرةالشيخ عبد الله بن ياسين وجماعته من شباب قبيلة جُدالةيحيى بن عمر اللمتوني ( ت 447 هـ= 1055 م )زعيم ثاني أكبر قبيلتين منقبائل صنهاجة وهي قبيلة لمتونة - القبيلة الأولى هي جُدالة كما ذكرنا -.
فدخل فيجماعة المرابطين، وعلى الفور وكما فعل الصحابي الجليل سعد بن معاذ رضيالله عنه حين دخل الإسلام وذهب إلى قومه وكان سيدًا عليهم وقال لهم: إنكلام رجالكم ونسائكم وأطفالكم عليّ حرام، حتى تشهدوا أنه لا إله إلاالله وأنمحمدًا رسول الله، قام يحيى بن عمر اللمتوني وفعل الأمر نفسه، وذهب إلىقومه وأتى بهم ودخلوا مع الشيخ عبد الله بن ياسين في جماعته، وأصبحالثلاثمائة وألف سبعةَ آلافٍ في يوم وليلة، مسلمون كما ينبغي أن يكونالإسلام.
وفي مثاللحسن الختام وبعد قليل من دخول قبيلة لَمْتُونة في جماعة المرابطين يموتزعيمهم الذي دلّهم على طريق الهداية الشيخ يحيى بن عمر اللمتوني ( 447 هـ= 1055 م)، ثم يتولى من بعده زعامة القبيلةالشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني ( 480 هـ= 1087 م ).
دخل الشيخأبو بكر بن عمر اللمتوني بحماسة شديدة مع الشيخ عبد الله بن ياسين، وبدأأمرهم يقوى وأعدادهم تزداد، وبدأ المرابطون يصلون إلى أماكن أوسع حولالمنطقة التي كانوا فيها في شمال السنغال، فبدءوا يتوسعون حتى وصلت حدودهممن شمال السنغال إلى جنوب موريتانيا، وأدخلوا معهم جُدالة، فأصبحت جُدالةولَمْتُونة وهما القبيلتان الموجودتان في شمال السنغال وجنوب موريتانياجماعة واحدةً تمثّل جماعة المرابطين.
استشهاد الشيخ المؤسس المجاهد :
أما الشيخ "عبد الله بن ياسين" ففي إحدى جولاته وبينما يأمر بالمعروف وينهى عنالمنكر في إحدى القبائل، حاربوهوقاتلوه حتىاستشهد رحمه الله سنة 451 هـ= 1059 م بعد أن أمضى أحد عشر عامًا من تربيةالرجال على الجهاد والفقه الصحيح لمعاني الإسلام العظيمة، استُشهد رحمهالله وقد ترك اثنا عشر ألف مجاهد قد تربوا على منهج سول الله صلى اللهعليه وسلم وصحابته الكرام والسلف الصالح.
أبو بكر بن عمر اللمتوني وزعامة دولةالمرابطين :
بعد الشيخ "عبد الله بن ياسين" يتولّى الشيخ "أبو بكر بن عمر اللمتوني" ( 480 هـ= 1087 م ) زعامة جماعة المرابطين، وفي خلال سنتين من زعامته لهذه الجماعةالناشئة يكون قد ظهر في التاريخ ما يُعرف بدويلة المرابطين، وأرضها آنذاكشمال السنغال وجنوب موريتانيا، وهي بعد لا تكاد تُرى على خريطة العالم.
وبعد سنتينمن تولّي الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني زعامة المرابطين، وفي سنة 453 هـ= 1061 م يسمع بخلاف قد نشب بين المسلمين في جنوب السنغال في منطقة بعيدةتمامًا عن دويلة المرابطين، ولعلمه أن الخلاف شر وأنه لو استشرى بين الناسفلن يكون هناك مجال للدعوة، نزل بعجالة ليحلّ هذا الخلاف رغم أن الناسليسوا في جماعته وليسوا من قبيلته، لكنه وبحكمة شديدة يعلم أنه الحق ولابد له من قوة تحميه.
وفي السنةالمذكورة كان قد وصل تعداد المرابطين قرابة الأربعة عشر ألفا، فأخذ نصفهموجاب أعماق السنغال في جنوبها ليحل الخلاف بين المتصارعين هناك، تاركًازعامة المرابطين لابن عمه يوسف بن تاشفين (410 - 500 هـ= 1019 - 1106 م ) رحمه الله.
يستطيع أبوبكر بن عمر اللمتوني أن يحل الخلاف الذي حدث في جنوب السنغال، لكنه يفاجأبشيء عجيب، فقد وجد في جنوب السنغال وبجانب هذه القبائل المتصارعة قبائلأخرى وثنية لا تعبد الله بالكلية، وجد قبائل تعبد الأشجار والأصنام وغيرذلك، وجد قبائل لم يصل إليها الإسلام بالمرة.
حزّ ذلك فينفسه رحمه الله حيث كان قد تعلّم من الشيخ عبد الله بن ياسين أن يحمل همّالدعوة إلى الله، وأن يحمل همّ هداية الناس أجمعين حتى إن لم يكونوامسلمين، وأن يسعى إلى التغيير والإصلاح بنفسه، فأقبل الشيخ أبو بكر بن عمراللمتوني بالسبعة آلاف الذين معه يعلمونهم الإسلام ويعرفونهم دين الله،فأخذوا يتعلمون ويتعجبون: كيف لم نسمع بهذا الدين من قبل! كيف كنا بعيدينعن هذا الدين الشامل المتكامل! حيث كانوا يعيشون في أدغال أفريقيا ويفعلونأشياء عجيبة، ويعبدون أصنامًا غريبة، ولا يعرفون لهم ربًا ولا إلهًا.
وبصبرٍ شديدٍظلّ أبو بكر بن عمر اللمتوني يدعوهم إلى الإسلام، فدخل منهم جمع كثيروقاومه جمع آخر؛ ذلك لأن أهل الباطل لا بدّ وأن يحافظوا على مصالحهم، حيثأنهم مستفيدون من وجود هذه الأصنام، ومن ثَمّ فلا بدّ وأن يقاوموه،فصارعهم أيضًا والتقى معهم في حروب طويلة.
ظلّ الشيخأبو بكر بن عمر اللمتوني يتوسع في دعوته ويتنقل من قبيلة إلى قبيلة، وفي 468 هـ= 1076 م وبعد خمس عشرة سنة كاملة من تركه جنوب موريتانيا وهو زعيمعلى دويلة المرابطين، يعود رحمه الله بعد مهّمة شاقة في سبيل الله عز وجليدعو إلى الله على بصيرة، فيُدخل في دين الله ما يُدخل، ويحارب من صدالناس عن دين الله سبحانه وتعالى حتى يرده إلى الدين أو يصده عن صده.
))لقد كانأبو بكر بن عمر من أعظم قادة المرابطين، واتقاهم وأكثرهم ورعًا ودينًاوحبًا للشهادة في سبيل الله، وساهم في توحيد بلاد المغرب، ونشر الإسلام فيالصحارى القاحلة وحدود السنغال والنيجر، وجاهد القبائل الوثنية حتى خضعتوانقادت للإسلام والمسلمين، ودخل من الزنوج أعداد كبيرة في الإسلام،وساهموا في بناء دولة المرابطين الفتيّة، وشاركوا في الجهاد في بلادالأندلس وصنعوا مع إخوانهم المسلمين في دولة المرابطين حضارة متميّزة)) د. الصلابي - الجوهر الثمين بمعرفة دولة المرابطين.
يوسف بن تاشفين ومهام صعبة :
قال "الذهبي" في "سير أعلام النبلاء": كان ابن تاشفين (410 - 500 هـ= 1019 - 1106 م ) كثير العفو، مقربًا للعلماء، وكان أسمر نحيفًا، خفيف اللحية، دقيق الصوت،سائسًا، حازمًا، يخطب لخليفة العراق...
ووصفه "ابن الأثير" في "الكامل" بقوله:
كان حليمًاكريمًا، دينًا خيرًا، يحب أهل العلم والدين، ويحكّمهم في بلاده، ويبالغ فيإكرام العلماء والوقوف عند إشارتهم، وكان إذا وعظه أحدُهم، خشع عند استماعالموعظة، ولان قلبُه لها، وظهر ذلك عليه، وكان يحب العفو والصفح عن الذنوبالعظام...
منذ أن ترك الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني دويلة المرابطين في جنوب موريتانياوشمال السنغال في سنة 453هـ= 1061 موالشيخ يوسف بن تاشفين ينتظر وصوله، مرّ يوم ويومان وشهر وشهران ولم يرجع،وحين علم أنه قد توغّل في أفريقيا ما كان منه رحمه الله إلا أن بدأ ينظرفي الشمال باحثًا عمن ابتعد عن دين الله يعلّمه ويردّه إليه.
نظريوسف بن تاشفين في شمال موريتانيا (المنطقة التي تعلوه) وفي جنوب المغربالعربي فرأى من حال البربر الذين يعيشون في هذه المنطقة وبالتحديد في سنة 453 هـ= 1061 م رأى أمورًا عجبًا، هذه بعض منها:
أولًا: قبيلة غمارة:
هي من قبائلالبربر وقد وجد فيها رجلًا يُدعى حاييم بن منّ الله يَدّعي النبوة وهو منالمسلمين، والغريب أنه لم ينكر نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل قالإنه نبي على دين الإسلام، ثم أخذ يُشرّع للناس شرعًا جديدًا وهم يتبعونهفي ذلك ويظنون أن هذا هو الإسلام.
فرضحاييم بن منّ الله على قبيلته صلاتين فقط في اليوم والليلة، إحداها فيالشروق والأخرى في الغروب، وبدأ يؤلّف لهم قرآنًا بالبربرية، ووضع عنهمالوضوء، ووضع عنهم الطُّهر من الجنابة، كما وضع عنهم فريضة الحج، وحرّمعليهم أكل بيض الطيور وأحلّ لهم أكل أنثى الخنزير، وأيضا حرّم أكل السمكحتى يُذبح.
وإنهلخلط وسَفه بَيّنٌ خاصة حين يَدّعي أنّه من المسلمين، كما أنه من العجب أنيتبعه الناس على هذا الأمر ويعتقدون أن هذا هو الاسلام.
ثانيا: قبيلة برغواطة:
هيقبيلة أخرى من قبائل البربر في تلك المنطقة، على رأسها كان رجل يُدعى صالحبن طريف بن شمعون، ذلك الذي لم يكن بصالح ادّعى أيضًا النبوة، وفرض علىالناس خمس صلوات في الصباح وخمس في المساء، وفرض عليهم نفس وضوء المسلمينبالإضافة إلى غسل السُّرّة وغسل الخاصرتين، كما فرض عليهم الزواج من غيرالمسلمات فقط، وجوّز لهم الزواج بأكثر من أربعة، وأيضًا فرض عليهم تربيةالشعر للرجال في ضفائر وإلا أثموا، ومع كل هذا فقد كان يدّعي أنه منالمسلمين.
ثالثا: قبيلة زناتة:
كانت قبيلةزناته من القبائل السنيّة في المنطقة، وكانت تعرف جزءًا من الإسلام، هوجانب العبادات وأمور العقيدة، فقد كانوا يصلون كما ينبغي أن تكون الصلاة،ويزكون كما يجب أن تكون الزكاة، لكنهم كانوا يسلبون وينهبون مَنْ حولهم،والقوي فيهم يأكل الضعيف، فَصَلُوا الدين تماما عن أمور الدنيا وسياسةالحياة العامة، فلم يكن الدين عندهم إلا صلاة وصيام وحج، وفي غير ذلك منالمعاملات افعل ما بدا لك ولا حرج.
كان من هذاالقبيل الكثير والكثير الذي يكاد يكون قد مرق من الدين بالكلية، وقد كانتهناك قبيلة أخرى تعبد الكبش وتتقرب به إلى رب العالمين، وبالتحديد في جنوبالمغرب، تلك البلاد التي فتحها عقبة بن نافع ثم موسى بن نصير رضي اللهعنهما.
يوسف بن تاشفين وصناعة النصر والحضارة
شق ذلك الوضعكثيرًا على يوسف بن تاشفين رحمه الله فأخذ جيشه وانطلق إلى الشمال ليدعوالناس إلى الإسلام، دخل معه بعضهم لكن الغالب قاومه وحاربه، فحاربه حاييمبن منّ الله، وحاربه صالح بن طريف، وحاربته كل القبائل الأخرى في المنطقة،حتى حاربته قبيلة زناتة السنية، فحاربهم بالسبعة آلاف رجل الذين تركهم معهأبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله، وبمرور الأيام بدأ الناس يتعلمون منهالإسلام ويدخلون في جماعته المجاهدة.
وبعد رجوعالشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني في سنة 468 هـ= 1076 م وبعد خمس عشرة سنةمن الدعوة - كما ذكرت - في جنوب السنغال وأدغال أفريقيا، يرى يوسف بنتاشفين رحمه الله الذي كان قد تركه فقط على شمال السنغال وجنوب موريتانيافي سنة 453 هـ= 1061 م يراه أميرًا على: السنغال بكاملها، وموريتانيابكاملها، والمغرب بكاملها، والجزائر بكاملها، وتونس بكاملها، وعلى جيش يصلإلى مائة ألف فارس غير الرجالة، يرفعون راية واحدة ويحملون اسم المرابطين.
وجد أبو بكربن عمر اللمتوني كذلك أن هناك مدينة قد أُسست على التقوى لم تكن على الأرضمطلقا قبل أن يغادر، وتلك هي مدينة "مراكش"، والتي أسسها الأمير يوسف بنتاشفين، وكان أول بناء له فيها هو المسجد الذي بناه بالطين والطوب اللبن،تمامًا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يحمل بنفسه الطين معالناس تشبهًا أيضًا بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو الأمير على مائة ألففارس.
وكذلك وجدالشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني رجلًا قد أسس حضارة لم تُعرف في المنطقةمنذ سنوات وسنوات، ثم هو بعد ذلك يراه زاهدا متقشفًا ورعًا تقيًا، عالمًابدينه طائعًا لربه، فقام الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني بعمل لم يحدث إلافي تاريخ المسلمين فقط، حيث قال ليوسف بن تاشفين: أنت أحق بالحكم مني، أنتالأمير، فإذا كنتُ قد استخلفتُك لأجلٍ حتى أعود فإنك تستحق الآن أن تكونأميرًا على هذه البلاد، أنت تستطيع أن تجمع الناس، وتستطيع أن تملك البلادوتنشر الإسلام أكثر من ذلك، أما أنا فقد ذقت حلاوة دخول الناس في الإسلام،فسأعود مرة أخرى إلى أدغال أفريقيا أدعو إلى الله هناك.
أبو بكر بن عمر اللمتوني رجل الجهاد والدعوة :
نزل الشيخأبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله مرة أخرى إلى أدغال أفريقيا يدعو منجديد، فأدخل الإسلام في غينيا بيساو جنوب السنغال، وفي سيراليون، وفي ساحلالعاج، وفي مالي، وفي بوركينا فاسو، وفي النيجر، وفي غانا، وفي داهومي،وفي توجو، وفي نيجريا وكان هذا هو الدخول الثاني للإسلام في نيجريا؛ حيثدخلها قبل ذلك بقرون، وفي الكاميرون، وفي أفريقيا الوسطى، وفي الجابون.
فكانت أكثرمن خمس عشرة دولة أفريقية قد دخلها الإسلام على يدِ هذا المجاهد البطلالشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله هذا الرجل الذي كان إذا دعا إلىالجهاد في سبيل الله - كما يذكر ابن كثير في البداية والنهاية - كان يقومله خمسمائة ألف مقاتل، أي نصف مليون من المقاتلين الأشداء غير من لايقومون من النساء والأطفال، وغير بقية الشعوب في هذه البلاد من أعداد لاتحصى قد هداها الله على يديه.
وما من شكأنه كلما صلى رجل صلاة في النيجر أو في مالي أو في نيجريا أو في غانا،كلما صلى رجل صلاة هناك، وكلما فعل أحد منهم من الخير شيئا أُضيف إلىحسنات الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني ومن معه رحمهم الله.
قالالحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: "أبو بكر بن عمر أمير الملثمين كانفي أرض فرغانة، اتفق له من الناموس ما لم يتفق لغيره من الملوك، كان يركبمعه إذا سار لقتال عدو خمسمائة ألف مقاتل، كان يعتقد طاعته، وكان مع هذايقيم الحدود ويحفظ محارم الاسلام، ويحوط الدين ويسير في الناس سيرة شرعية،مع صحة اعتقاده ودينه، وموالاة الدولة العباسية، أصابته نشابة في بعضغزواته في حلقه فقتلته..."
ها هو رحمهالله وبعد حياة طويلة متجردة لله سبحانه وتعالى يستشهد في إحدى فتوحاته فيسنة 480 هـ= 1087 م، وما استمتع بملكٍ قط بل كان يغزو في كل عام مرتين،يفتح البلاد ويعلّم الناس الإسلام، لتصبح دولة المرابطين قبل استشهادهرحمه الله ومنذ سنة 478 هـ= 1085 م متربعة على خريطة العالم ممتدة من تونسفي الشمال إلى الجابون في وسط أفريقيا، وهي تملك أكثر من ثلث مساحةأفريقيا.
لذلك حين قرأ "ألفونسو السادس" رد "المعتمد على الله بن عباد" أمير إشبيلية المحاصرة منقِبل الأول: لأروحنّ لك بمروحة من المرابطين، علم أنه سيواجه ثلث أفريقيا،وعلم أنه سيقابل أقوامًا عاشوا على الجهاد سنوات وسنوات، فقام من توّهبفكّ الحصار ثم الرحيل.
دولة المرابطين ويوسف بن تاشفين أمير المسلمين وناصر الدين :
كانت بدايةحديثنا عن تاريخ المرابطين هو سنة 440 هـ= 1048 م وكانت البداية برجل واحدفقط هو الشيخ عبد الله بن ياسين، ثم كان الصبر والتربية المتأنية فيالدعوة إلى الله على النهج الصحيح القويم ليصل عدد المرابطين وينتشرونبهذا الحجم الذي أشرنا إليه، والذي يمثّل الآن أكثر من عشرين دولة أفريقية.
فقط كان ذلكبعد ثمان وثلاثين سنة، وتحديدًا في سنة 478 هـ= 1085م، ويصبح يوسف بنتاشفين رحمه الله زعيم هذه الدولة العظيمة، ويسمي نفسه: أمير المسلمينوناصر الدين، وحين سُئِل لماذا لا تتسمى بأمير المؤمنين؟ أجاب: هذا شرف لاأدّعيه، هذا شرف يخصّ العباسيين وأنا رجلهم في هذا المكان.
كانالعباسيون في هذه الفترة لا يملكون سوى بغداد فقط، وكان يوسف بن تاشفينيريد للمسلمين أن يكونوا تحت راية واحدة، ولم يُرِد رحمه الله أن يشق عصاالخلافة، ولا أن ينقلب على خليفة المسلمين، وكان يتمنى أن لو استطاع أنيضم قوته إلى قوة الخليفة العباسي هناك، ويصبح رجلًا من رجاله في هذهالبلاد فقال مجمّعا مؤمّلا: وأنا رجلهم في هذا المكان، وهذا هو الفقهالصحيح والفهم الشامل للإسلام...
يوسف بن تاشفين ووفد الأندلس:
في سنة 478 هـ= 1085م وفي مراكش يستقبل يوسف بن تاشفين الوفد الذي جاء من قِبل بعض ملوكالطوائف يطلبون العون والمساعدة في وقف وصدّ هجمات النصارى عليهم، وإذا بهرحمه الله يتشوّق لمثل ما يطلبون، حيث الجهاد في سبيل الله ومحاربةالنصارى، فيالها من نعمة، ويالها من أمنية.
ما كان منه رحمه الله إلا أن انطلق معهموبنحو سبعة آلاف فقط من المجاهدين،رغم أن قوته في الشمال الأفريقي مائة ألف مقاتل، وكان لديه في الجنوب خمسمائة ألف،وقد كان هذا ملمح ذكاءٍ منه؛ إذ لم يكن رحمه الله وهو القائد المحنك ليخرجويلقِي بكل قواته في الأندلس، ويتحرك بعشوائية تاركًا وراءه هذه المساحاتالشاسعة في شمال وجنوب أفريقيا بلا حراسة ولا حماية، ومن ثَمّ فقد رأى أنيظلّ أحد الجيوش رابضًا في تونس وآخر في الجزائر ومثله في المغرب وهكذا فيكل البلاد الإفريقيه التي فُتحت.
أعدّ العدة رحمهالله وجهّز السفن، وبينما يعبر مضيق جبل طارق، وفي وسطه يهيج البحر وترتفعالأمواج وتكاد السفن أن تغرق، وكما كان قائدًا يقف هنا قدوة وإمامًا،خاشعًا ذليلًا، يرفع يديه إلى السماء ويقول:
اللهم إن كنت تعلمأن في عبورنا هذا البحر خيرا لنا وللمسلمين فسهّل علينا عبوره، وإن كنتتعلم غير ذلك فصعّبه علينا حتى لا نعبره، فتسكن الريح، ويعبر الجيش، وعندأول وصول له، والوفود تنتظره ليستقبلونه استقبال الفاتحين، يسجد لله شكرًاأن مكنّه من العبور، وأن اختاره ليكون جنديًا من جنوده سبحانه وتعالىومجاهدًا في سبيله.
يوسف بن تاشفين وقدوة كانت قد افتقدت وغُيّبت:
يدخل يوسف بنتاشفين أرض الأندلس، ويدخل إلى إشبيلية والناس يستقبلونه استقبالالفاتحين، ثم يعبر في اتجاه الشمال إلى ناحية مملكة "قشتالة" النصرانية،تلك التي أثارت الرعب في قلوب كل الأمراء الموجودين في بلاد الأندلس فيذلك الوقت، يتجه إليها في عزّة نفس ورباطة جأش منقطعة النظير بسبعة آلاففقط من الرجال.
كان الأندلسيونومنذ أكثر من سبعين سنة، في ذلّ وهوان وخنوع يدفعون الجزية للنصارى،وحينما شاهدوا هؤلاء الرجال الذين ما ألِفوا الذلّ يومًا، وما عرفوا غيرالرباط في سبيل الله، حينما شاهدوهم يعبرون القفار ويتخطون البحار حاملينأرواحهم على أكفّهم من أجل عزِّ الإسلام وإعلاء كلمة الله ورفعة المسلمين،حينما شاهدوهم على هذه الحال تبدّلوا كثيرًا، وتاقت نفوسهم إلى مثلأفعالهم، فأقبلوا على الجهاد، وأذّنوا بحي على خير العمل.
قال المقري في نفحالطيب: واجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية، وكان المعتمد قد جمع عساكرهأيضاً، وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير، وقصده المطوعة من سائر بلاد الأندلس،ووصلت الأخبار إلى الأذفونش فجمع عساكره، وحشد جنوده، وسار من طليطلة...
وبدأ يلحق بركبيوسف بن تاشفين الرجل من قرطبة والرجل من إشبيلية، وآخر من بطليوس، وهكذاحتى وصل الجيش إلى الزَّلَّاقة في شمال البلاد الإسلامية على حدود "قشتالة"،وعدده يربو على الثلاثين ألف رجل.
بين جيش المسلمين وجيش النصارى:
تحرّك الثلاثون ألفرجل بقيادة يوسف بن تاشفين ليصلوا إلى الزَّلَّاقَة، وهو ذلك المكان الذيدارت فيه موقعة هي من أشهر المواقع الإسلاميه في التاريخ، وذلك المكانالذي لم يكن يُعرف بهذا الاسم قبل ذلك، لكنه اشتهر به بعد الموقعة، وسنعرفقريبًا لماذا سُمَّيتْ بالزّلاقة.
في الوقت الذي يصلفيه يوسف بن تاشفين وجيشه إلى الزلاقة يصله نبأ مفزع من بلاده بالمغرب،إنه يحمل مصيبة قد حلت به وبداره، فابنه الأكبر قد مات، لكنه ورغم ذلك فلمتفتّ هذه المصيبة في عضدِه، ولم يفكر لحظة في الرجوع، ولم يرض أن يرسلقائدًا من قوّاده ويرجع هو، بل ذهب وهو الأمير على ثلث أفريقيا وأخذ معهأكبر قوّاد المرابطين وهو داود بن عائشة، وأرسل وزيره ليحكم البلاد فيغيابه.
كان النصارى قداستعدّوا لقدوم يوسف بن تاشفين بستين ألفًا من المقاتلين، على رأسهم "ألفونسو السادس" بعد أن جاءه العون من فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وألمانيا،وبعد أن أخذ وعودًا من البابا وصكوكًا بالغفران لكل من شارك في هذه الحربضد المسلمين.
قدم "ألفونسوالسادس" يحمل الصلبان وصور المسيح وهو يقول: بهذا الجيش أقاتل الجن والإنسوأقاتل ملائكة السماء وأقاتل محمدًا وصحبه، فهو يعرف تمامًا أنها حربصليبية ضد الإسلام.
الرسائل والحرب الإعلامية
وكعادة الجيوش في ذلك الوقت في تبادل الرسائل،أرسليوسف بن تاشفين برسالة إلى "ألفونسو السادس" يقول له فيها: بلغنا أنك دعوتأن يكون لك سفنًا تعبر بها إلينا، فقد عبرنا إليك، وستعلم عاقبة دعائك،وما دعاء الكافرين إلا في ضلال، وإني أعرض عليك الإسلام، أو الجزية عن يدوأنت صاغر، أو الحرب، ولا أؤجلك إلا لثلاث.
تسلم "ألفونسوالسادس" الرسالة وما إن قرأها حتى اشتاط غضبًا، إذ كيف يدفع الجزية وقدأخذها هو من المسلمين، ومن قبله آباؤه وأجداده؟! فأرسل ليوسف بن تاشفين متوعدًا ومهددًا: فإني اخترت الحرب، فما ردّك على ذلك؟ وعلى الفور أخذيوسف بن تاشفين الرسالة، وقلبها وكتب على ظهرها: الجواب ما تراه بعينك لا ما تسمعه بأذنك، والسلام على من اتبع الهدى
(الله اكبر)
فلما وقف "ألفونسو" على هذا الجواب ارتاع له، وعلم أنه بُلي برجل لا طاقة له به.
قال صاحب "الروضالمعطار في خبر الأقطار": ولما تحقق ابن فرذلند - ألفونسو السادس - جوازيوسف استنفر جميع أهل بلاده وما يليها وما وراءها، ورفع القسيسون والرهبانوالأساقفة صلبانهم ونشروا أناجيلهم، فاجتمع له من الجلالقة والافرنجة ومايليهم ما لا يحصى عدده، وجعل يصغي إلى أنباء المسلمين متغيظاً على ابنعباد حانقاً ذلك عليه متوعداً له، وجواسيس كل فريق تتردد بينالجميع، وبعث - ألفونسو السادس - إلى ابن عباد أن صاحبكم يوسف قد تعنى منبلاد بعيدة وخاض البحور، وأنا أكفيه العناء فيما بقي، ولا أكلفكم تعباً،أنا أمضي إليه وألقاكم في بلادكم رفقاً بكم وتوفيراً عليكم، وقال لأهل ودهووزرائه:
إني رأيت إنأمكنتهم من الدخول إلى بلادي فناجزوني بين جدرها ربما كانت الدائرة عليفيكتسحون البلاد ويحصدون من فيها في غداة واحدة، لكن أجعل يومهم معي فيحوز بلادهم، فان كانت علي اكتفوا بما نالوه ولم يجعلوا الدروب وراءهم إلابعد أهبة أخرى، فيكون في ذلك صون لبلادي وجبر لمكاسري، وإن كانت الدائرةعليهم كان مني فيهم وفي بلادهم ما خفت أنا أن يكونمنهم في وفي بلاديإذا ناجزوني في وسطها. ثم برز بالمختار من أنجاد جموعه على باب دربه وتركبقية جموعه خلفه، وقال حين نظر إلى ما اختاره من جموعه: بهؤلاء أقاتل الجنوالإنس وملائكة السماء، فالمقلل يقول: كان هؤلاء المختارون من أجنادهأربعين ألف دارع، ولا بد لمن هذه صفته أن يتبعه واحد واثنان، وأما النصارىفيعجبون ممن يزعم ذلك ويقوله، واتفق الكل أن عدة المسلمين كانت أقل من عدةالمشركين.
ورأى - ألفونسوالسادس - في نومه كأنه راكب على فيل يضرب نقيرة طبلٍ فهالته رؤياه وسألعنها القسوس والرهبان فلم يجبه أحد، ودس يهودياً عن من يعلم تأويلها منالمسلمين فدل على عابر فقصها عليه ونسبها إلى نفسه، فقال له العابر: كذبت،ما هذه الرؤيا لك، ولا بد أن تخبرني عن صاحبها وإلا لم أعبرها لك، فقال: اكتم ذلك، هو الفنش بن فرذلند - ألفونسو - فقال العابر: قد علمت أنهارؤياه، ولا ينبغي أن تكون لغيره وهي تدل على بلاء عظيم ومصيبة فادحة تؤذنبصلبه عما قريب، أما الفيل فقد قال الله تعالى: " ألم تر كيف فعل ربكبأصحاب الفيل " وأما ضرب النقيرة فقد قال الله تعالى: " فإذا نقر فيالناقور "، فانصرف اليهودي إلى ألفونسو السادس وجمجم له ولم يفسرها له...
وفي محاولة ماكرةلخديعة المسلمين أرسل "ألفونسو السادس" يحدد يوم المعركة، فأرسل أن غدًاالجمعة، وهو عيد من أعياد المسلمين ونحن لا نقاتل في أعياد المسلمين، وأنالسبت عيد اليهود وفي جيشنا كثير منهم، وأما الأحد فهو عيدنا، فلنؤجلالقتال حتى يوم الإثنين.
استلم يوسف بنتاشفين الرسالة، وبوعي تام وبقيادة تعلم خبايا الحروب وفنون مقدماتها لميُعلِم جيشه هذه الرسالة، إذ إنه يعلم أن هذا الرجل مخادع، كيف وهم يكذبونعلى الله فيكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، وكيف واللهقال فيهم: [أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ] {البقرة:100}.
تجهيز الجيش ورؤيا ابن رمُيْلَة:
بحذر تام لم يلتفتيوسف بن تاشفين إلى ما جاء في رسالة ألفونسو السادس، وقام بتعبئة الجيشوتجهيزه يوم الخميس، ووضعه على أتمّ الاستعداد، وفي ليلة الجمعة كان يناممع الجيش شيخ كبير من شيوخ المالكية في قرطبة، وهو ابن رُمَيْلَة ( الفقيهالناسك أبو العباس أحمد ابن رميلة القرطبي ) قال ابن بشكوال في الصلة أحمدبن محمد بن فرج الأنصاري يعرف: بابن رميلة من أهل قرطبة، يكنى: أباالعباس. كان معتنياً بالعلم، وصحبة الشيوخ وله شعر حسن في الزهد. وكانكثير الصدقة وفعل المعروف. قال لي شيخنا أبو محمد بن عتاب رحمه الله: كانأبو العباس هذا من أهل العلم والورع والفضل والدين، واستشهد بالزلاقةمقبلاً غير مدبر سنة تسع وسبعين وأربع مائة.... هـ
فلم تكن مهمّةالشيخ يومها هي مجرد الجلوس في المسجد أو إلقاء الدروس أو تعليم القرآنفقط، فقد كان هذا الشيخ يفقه أمور دينه ويعلم أن هذا الجهاد هو ذروة سنامهذا الدين.
في هذه الليلة يرى ابن رُمَيْلَة هذا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: يا ابن رمُيْلَة، إنكم منصورون، وإنك ملاقين.
يستيقظ ابنُرُمَيْلَة من نومه وهو الذي يعلم أن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم فيالمنام حق؛ لأن الشيطان لا يتمثل به صلى الله عليه وسلم ففي البخاري بسندهعن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُعَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّالشَّيْطَانَ لَا يَتَخَيَّلُ بِي وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْسِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ"
يقوم الشيخ فرحًامسرورًا، لا يستطيع أن يملك نفسه، فقد بشّره رسول الله صلى الله عليهوسلم، وسيموت في سبيل الله، فالْحُسْنَيَيْن أمام عينيه، نصر للمؤمنينوشهادة تناله، فيالها من فرحة، وياله من أجر.
وعلى الفور يذهبابن رُمَيْلَة رحمه الله في جنح الليل فيوقظ يوسف بن تاشفين، ويوقظالمعتمد على الله بن عبّاد الذي كان يقود وحدة كبيرة من قوات الأندلس،ويوقظ المتوكل بن الأفطس وعبد الله بن بلقين، ويوقظ كل قوّاد الجيش، ويقصّعليهم رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هزّت تلك الرؤيايوسف بن تاشفين وكلّ قواد الجيش، وقاموا من شدة فرحهم وفي منتصف الليلوأيقظوا الجيش كله على صوت: رأى ابن رُمَيْلَة رسول الله صلى الله عليهوسلم يقول له: إنكم لمنصورون وإنك ملاقين.
وفي لحظة لميتذوقوها منذ سنوات وسنوات في أرض الأندلس، يعيش الجيش كله أفضل لحظاتالسعادة، وتتوق النفوس إلى الشهادة، ويأمر يوسف بن تاشفين بقراءة سورةالأنفال، ويأمر الخطباء بتحفيز الناس على الجهاد، ويمرّ هو بنفسه رحمهالله على الفصائل ينادي ويقول: طوبى لمن أحرز الشهادة، ومن بقي فله الأجروالغنيمة.
قال في الروض المعطار: ووعظ يوسف وابن عباد أصحابهما، وقام الفقهاء والعباد يعظون الناس ويحضونهم على الصبر ويحذرونهم الفرار...
مخابرات ابن عباد تراقب الموقع:
ولما ازدلف بعضهمإلى بعض أذكى المعتمد عيونه في محلات الصحراويين خوفاً عليهم من مكايد ابنفرذلند إذ هم غرباء لا علم لهم بالبلاد، وجعل يتولى ذلك بنفسه حتى قيل إنالرجل من الصحراويين - المرابطين - كان يخرج عن طرق محلاتهم لبعض شأنه أولقضاء حاجته فيجد ابن عباد بنفسه مطيفاً بالمحلة بعد ترتيب الكراديس - الكُرْدُوْسُ الخَيْلُ العَظِيْمَةُ - من خيل على أفواه طرق محلاتهم، فلايكاد الخارج منهم عن المحلة يخطئ ذلك من لقاء ابن عباد لكثرة تطوافهعليهم...
المخابرات الإسلامية تنقل الأخبار بسرعة ودقة
جاء في الليلفارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة "ألفونسو" وسمعاضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة ثم تلاحق بقية الطلائع محققين بتحرك ابنفرذلند - ألفونسو - ثم جاءت الجواسيس من داخل محلات ابن فرذلند يقولون: استرقنا السمع الساعة، فسمعنا ابن فرذلند يقول لأصحابه: ابن عباد مسعر هذهالحروب، وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل حفاظ وذوي بصائر في الجهاد، غيرعارفين بهذه البلاد وإنما قادهم ابن عباد، فاقصدوه واهجموا عليه، وإنانكشف لكم هان عليكم هؤلاء الصحراويون بعده ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إنصدقتموه الحملة. وعند ذلك بعث ابن عباد كاتبه أبا بكر بن القصيرة إلى يوسفيعرفه بإقبال ابن فرذلند ويستحث نصرته، فمضى ابن القصيرة يطوي المحلات حتىجاء يوسف بن تاشفين فعرفه جلية الأمر...
الجيش الإسلامي وخطة الإعداد والهجوم:
بعد ترتيب الجيش وصلاة فجر يوم الجمعةالموافق 12 من شهر رجب 479 هـ= 23 من أكتوبر 1086 م، لم تكن مفاجأة ليوسفبن تاشفين أن يخالف "ألفونسو السادس" طبيعته وينقض عهده ويبدأ بالهجوم فيذلك اليوم،إذ الغدر والخيانة ومخالفة العهود هو الأصلعندهم،وهو ما يجب أن نعلمه جميعًا.
أما المفاجئة فأصابت "ألفونسو السادس" الذي وجد الجيش الإسلامي على أتمّ تعبئة وأفضل استعداد، وبخطة محكمة، كانيوسف بن تاشفين قد قسّم الجيش إلى نصفين، نصف أمامي ونصف خلفي، أما النصفالأمامي فقد طلب المعتمد على الله بن عبّاد أن يكون على قيادته على من معهمن الأندلسيين، يريد بذلك أن يكون بين المسلمين وبين النصارى، يريد أنيغسل عار السنين السالفة، يريد أن يمحو الذل الذي أذاقه إياه ألفونسوالسادس، إنه يريد أن يتلقى الضربة الأولى من جيش النصارى.
في نصف عدد الجيش، وفي خمسة عشر ألف مقاتل يقف المعتمد على الله بن عبّاد فيمقدمة الجيش ومن خلفه داود بن عائشة كبير قوّاد المرابطين، أما النصفالثاني أو الجيش الخلفي ففيه يوسف بن تاشفين رحمه الله يختفي خلف أحدالتلال البعيدة تمامًا عن أرض المعركة، ويضم أيضًا خمسة عشر ألف مقاتل،ويستبقي من الجيش الثاني أو الخلفي الذي فيه يوسف بن تاشفين أربعة آلافمقاتل، فيبعدهم أكثر عن هذا الجيش الخلفي، وقد كان هؤلاء الأربعة آلاف منرجال السودان المهرة، يحملون السيوف الهندية والرماح الطويلة، وكانوا أعظمالمحاربين في جيش المرابطين، فاستبقاهم يوسف بن تاشفين في مؤخرة الجيش.
أصبح جيش المسلمين مقسمًا إلى ثلاثفرق، الفرقة الأولى وهي المقدمة بقيادة المعتمد على الله وتضم خمسة عشرألف مقاتل، والفرقة الثانية خلف الأولى وعلى رأسها يوسف بن تاشفين وتضمأحد عشر ألف مقاتل، ومن بعيد تنتظر الفرقة الثالثة وتضمّ أربعة آلاف مقاتلهم من أمهر الرماة والمحاربين.
لم تكن خطة يوسف بن تاشفين رحمه اللهجديدة في حروب المسلمين، فقد كانت هي نفس الخطة التي استعملها خالد بنالوليد رضي الله عنه في موقعة الولجة في فتوح فارس، وهي أيضا نفس الخطةالتي استعملها النعمان بن مقرن رضي الله عنه في موقعة نهاوند في فتوح فارسأيضا، فكان رحمه الله رجلا يقرأ التاريخ ويعرف رجالاته ويعتبر بهم.
الزَّلَّاقةُ ومعركة الوجود الإسلامي في الأندلس:
لما كان يوم الجمعة الموافق 12 من شهررجب 479 هـ= 23 من أكتوبر 1086 م هجم "ألفونسو السادس" بستين ألفًا منالنصارى على الجيش الأول للمسلمين المؤلّف من خمسة عشر ألف فقط، وقد أراديوسف بن تاشفين من وراء ذلك أن تحتدم الموقعة فتُنْهك قوى الطرفين حتى لايستطيعان القتال، وكما يحدث في سباق الماراثون فيقوم هو ويتدخل بجيشهليعدل الكفة لصالح صف المسلمين.
وأمام أمواج تتلوها أمواج وأسراب تتبعها أسراب، يصبر المسلمون أمام ستين ألفا منالنصارى...
المعتمد بن عباد في قلب المعركة:
مال ألفونسو السادس على المعتمد بجموعهوأحاطوا به من كل جهة فاستحر القتل فيهم، وصبر ابن عباد صبراً لم يعهدمثله لأحد، واستبطأ يوسف وهو يلاحظ طريقه، وعضته الحرب واشتد البلاء وأبطأعليه الصحراويون، وساءت ظنون أصحابه، وانكشف بعضهم وفيهم ابنه عبد الله،وأثخن ابن عباد جراحات وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه،وجرحت يمنى يديه وطعن في أحد جانبيه وعقرت تحته ثلاثة أفراس كلما هلك واحدقدم له آخر وهو يقاسي حياض الموت يضرب يميناً وشمالاً، وتذكر في تلك الحالابناً له صغيراً كان مغرماً به، كان تركه بإشبيلية عليلاً اسمه المعلىوكنيته أبو هاشم فقال:
أبا هاشـم هشـمتني الشـفار فلله صبري لذاك الأوار
ذكرت شخيصك تحت العجاج فلم يثنـني ذكره للفرار
ثم كان أول من وافى ابن عباد من قواد ابن تاشفين، داود بن عائشة، وكان بطلاًشهماً فنفس بمجيئه عن ابن عباد...
وهناكوبعد عصر ذلك اليوم يشير يوسف بن تاشفين إلى من معه أن انزلوا وساعدواإخوانكم، وذلك بعد أن كانت قد أُنهكت قوى الطرفين من المسلمين والنصارى،وبعد طول صبر ينزل يوسف بن تاشفين بالأحد عشر مقاتلًا الذين كانوا معه وهمفي كامل قوتهم، فيحاصرون الجيش النصراني.
قسّم يوسف بن تاشفين الجيش الذي كانمعه إلى قسمين، فالأول يساعد مقدمة المسلمين، والثاني يلتفّ خلف جيشالنصارى، وكان أول فعل له خلف جيش النصارى هو أن حرّق خيامهم، وذلك حتىيعلم النصارى أن يوسف بن تاشفين ومن معه من ورائهم وهم محيطون بهم، فقدكان يعلم رحمه الله أن مثل هؤلاء الناس لا يهمهم من الدنيا إلا أن يظلواأحياء، وأن ينجوا بأنفسهم.
حين علم النصارى أن المسلمين من ورائهموأنهم محاصرون دبّت الهزيمة في قلوبهم، وبدأ الخلل يتغلغل في صفوفهم،وبالفعل بدأ الانسحاب التدريجي التكتيكي الذي يحاول أقل خسارة ممكنة، وقدالتفّ الناس حول ألفونسو السادس يحمونه، ثم حدثت خلخلة عظيمة في جيشهم.
وفي الضربة الأولى ليوسف بن تاشفين يُقتل من النصارى عشرة آلاف رجل، وفي وصفلهذا القائد في تلك المعركة يقولالمؤرخون بأن يوسف بن تاشفين وهوالأمير على ثلث إفريقيا كان في هذه الموقعة يتعرض للموت ويتعرض للشهادةولا يصيبها، يلقي بنفسه في المهالك، رحمه الله ورضي عنه وعن أمثاله.
تزداد شراسة الموقعة حتى قبيل المغرب،ثم ومن بعيد يشير يوسف بن تاشفين إلى الأربعة آلاف فارس أو الفرقة الثالثةوالأخيرة، والتي كانت من رجال السودان المهرة، فيأتون فيعملون القتل فيالنصارى ويستأصلونهم.
وتنجليالحقيقة المروّعة لأعداء الله عن قتل خمسين وخمسمائة وتسع وخمسين ألفًا منالنصارى من مجموع ستين ألفا منهم، ممن كانوا سيهزمون الإنس والجنوالملائكة، في موقعة كانت تنزلق فيها أقتاب الخيول وأرجل الفرسان من كثرةالدماء في هذه الأرض الصخرية، حتى سُمّيت من بعدها بالزلَّاقة.
وكان قد بقي من النصارى أربعمائةوخمسون فارسًا فقط، منهم ألفونسو السادس الذي نجا من الموت بساق واحدة، ثمانسحب في جنح الظلام بمن معه إلى طليطلة، وقد مات منهم في الطريق من أثرالجراح المثخنة ثلاثمائة وخمسون فارسا، وهناك دخل طليطلة بمائة فارس فقط.
فكانت الزلاقة دون مبالغة كاليرموك والقادسية...
لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا
بعد هذه المعركة جمع المسلمون منالغنائم الكثير، لكن يوسف بن تاشفين وفي صورة مشرقة ومشرّفة من صورالإخلاص والتجرد وفي درس عملي بليغ لأهل الأندلس عامة ولأمرائهم خاصة يترككل هذه الغنائم لأهل الأندلس، ويرجع في زهدٍ عجيب وورع صادق إلى بلادالمغرب، لسان حاله: [لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءًوَلَا شُكُورً] {الإنسان:9}.
قال المقري في نفح الطيب: وأقامتالعساكر بالموضع أربعة أيام، حتى جمعت الغنائم، واستؤذن في ذلك السلطانيوسف، فعفّ عنها، وآثر بها ملوك الأندلس، وعرفهم أن مقصده الجهاد والأجرالعظيم، وما عند الله في ذلك من الثواب المقيم، فلما رأت ملوك الأندلسإيثار يوسف لهم بالغنائم استكرموه، وأحبوه وشكروا له ذلك.
يعود رحمه الله إلى بلاد المغرب ليس معه إلا وعودًا منهم بالوحدة والتجمع ونبذالفرقة، والتمسك بكتاب الله وبسنة رسولهصلى الله عليه وسلم، وقد نصحهم باتباعسنة الجهاد في سبيل الله، وعاد يوسف بن تاشفين البطل الإسلامي المغواروعمره آنذاك تسع وسبعون سنة!!
كانمن الممكن له رحمه الله أن يرسل قائدا من قواده إلى أرض الأندلس ويبقى هوفي بلاد المغرب، بعيدا عن تخطي القفار وعبور البحار، وبعيدا عن ويلاتالحروب وإهلاك النفوس، وبعيدا عن أرض غريبة وأناس أغرب، لكنه رحمه اللهوهو الشيخ الكبير يتخطى تلك الصعاب ويركب فرسه ويحمل روحه بين يديه، لسانحاله: أذهب إلى أرض الجهاد لعلّي أموت في سبيل الله، شعاره هو:
إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومٍ فَلَا تَقْنَعُ بِمَا دُونَ النُّجُومِ
فَطَعْمُ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ حَقِيرٍ كَطَعْمِ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍعَظِيمٍ
المعتمد على الله بن عباد وشرف الجهاد
ولما دخل ابن عباد اشبيلية جلس للناسوهُنئ بالفتح، وقرأت القراء وقامت على رأسه الشعراء فأنشدوه، قال عبدالجليل بن وهبون: حضرت ذلك اليوم وأعددت قصيدة أنشده إياها فقرأ القارئ: [إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُاللَّهُ] {التوبة 40} فقلت: بعداً لي ولشعري، والله ما أبقت لي هذه الآية معنىأحضره وأقوم به؛ واستشهد في هذا اليوم جماعة من أعيان الناس كابن رميلةالمتقدم الذكر وقاضي مراكش أبي مروان عبد الملك المصمودي وغيرهما، وطارذكر ابن عباد بهذه الوقيعة وشهر مجده، ومالت إليه القلوب، وسالمته ملوكالطوائف، وخاطبوه جميعاً بالتهنئة، ولم يزل ملحوظاً معظماً إلى أن كان منأمره مع يوسف ما كان... الروض المعطار في خبر الأقطار – الحِميري
مصير ألفونسو السادس:
لمابلغ - ألفونسو السادس - إلى بلاده وسأل عن أبطاله وشجعانه وأصحابهم ففقدهمولم يسمع إلا نواح الثكلى عليهم، اهتمّ ولم يأكل ولم يشرب حتى هلك هماًوغمًا، فكان مصيره جهنم وبئس المصير...
صراعات ملوك الطوائف وعودة يوسف بن تاشفين من جديد:
بعد عودة يوسف بن تاشفين إلى أرضالمغرب، حدثت الصراعات بين أمراء المؤمنين الموجودين في بلاد الأندلس بسببالغنائم وتقسيم البلاد المحرّرة.
وهنا ضج علماء الأندلس وذهبوا يستنجدون بيوسف بن تاشفين من جديد، لا لتخليصهمهذه المرة من النصارى، وإنما لإنقاذهم من أمرائهم...
يتورّع يوسف بن تاشفين عن هذ الأمر، إذكيف يهجم على بلاد المسلمين وكيف يحاربهم؟! فتأتيه رحمه الله الفتاوى منكل بلاد المسلمين تحمّله مسئولية ما يحدث في بلاد الأندلس إن هو تأخرعنها، وتحذّره من ضياعها إلى الأبد، وتطلب منه أن يضمها إلى أملاكالمسلمين تحت دولة واحدة وراية واحدة، هي دولة المرابطين.
فجاءته الفتوى بذلك من بلاد الشام منأبي حامد الغزالي صاحب "إحياء علوم الدين"، وقد كان معاصرًا لهذه الأحداث،وجاءته الفتوى من أبي بكر الطرطوشي العالم المصري الكبير، وجاءته الفتوىمن كل علماء المالكية في شمال أفريقيا.
لميجد يوسف بن تاشفين إلا أن يستجيب لمطلبهم، فقام في سنة 483 هـ= 1090 موبعد مرور أربعة أعوام على موقعة الزَلَّاقة، وجهّز نفسه ودخل الأندلس.
((الواقع يقول أن ابن تاشفين لم يطمعفي الأندلس وتردد كثيرًا قبل العبور، وعف عن الغنائم بعد ذلك وتركهاللمعتمد ولأمراء الأندلس ولم يأخذ منها شيئًا، وكان عودته، ثم يعود فيالجواز الثاني بسبب اختلافات ملوك الطوائف، وتحالف بعضهم مع عدو الإسلام،وكان الجواز الثالث لوضع حد لمهزلة ملوك الطوائف، لقد آن - وباسم الإسلام - لهذه الدويلات الضعيفة المتناحرة المتحالف بعضها مع الأعداء أنتنتهي...))...الزلاقة - د. شوقي أبو خليل
يوسف بن تاشفين ودولة واحدة على المغرب والأندلس:
لم يكن دخول يوسف بن تاشفين الأندلسأمرًا سهلًا، فقد حاربه الأمراء هناك بما فيهم المعتمد على الله بن عبّاد،ذلك الرجل الذي لم يجد العزّة إلا تحت راية يوسف بن تاشفين رحمه الله قبلوبعد الزلاقة، قام المعتمد على الله بمحاربته وأنّى له أن يحارب مثله...
استعرت نار الحرب بين المرابطين وملوكالطوائف وانتهت بضم كل ممالك الأندلس لدولة المرابطين إلا "سرقسطة" التيحكمها أحمد بن هود، والذي كان كالشوكة في حلق النصارى، فقد قاومهم زمنًاطويلًا، وتراجع النصارى أمام صمود بني هود البطولي، وأظهر بنود هود مقدرةفائقة على قتال النصارى مما جعل المرابطين يحترمونهم، وتوطدت العلاقةالودية بين الأمير يوسف والأمير احمد بن هود الذي كان وفيًا في عهوده،ومخلصًُا في جهاده، وحريصًا على أمته، ورضي المرابطون ببقاء أحمد بن هودحاكمًا تابعًا لهم، وبذلك أصبحت الأندلس ولاية تابعة لدولة المرابطين،وتوارت العناصر والزعامات الهزيلة وانهار سلطان العصبيات الطائفية. الأندلس في عصر المرابطين ص 112
فاستطاع يوسف بن تاشفين أن يضمّ كلبلاد الأندلس تحت لوائه، وأن يحرّر "سرقسطة"، تلك التي كان النصارى قدأخذوها بعد أن قسّمها أميرها بين ولديه واستطاع أن يضمّها إلى بلادالمسلمين، وقد أصبح أميرًا على دولة تملك من شمال الأندلس وبالقرب منفرنسا وحتى وسط أفريقيا، دولة واحدة اسمها دولة المرابطين.
ظلّهذا الشيخ الكبير يحكم حتى سنة 500 هـ= 1106 م وكان قد بلغ من الكبرعتيًا، وتوفي رحمه الله بعد حياة حافلة بالجهاد وقد وفّى تمام المائة،منها سبع وأربعين سنة في الحكم، وكان تمام ستين سنة على ميلاد دولةالمرابطين، تلك التي أصبحت من أقوى دول العالم في ذلك الزمان.
الموقف بعد الزلاقة وقفة تحليلية:
كانت الزلاقة- كما ذكرنا- في 12 من شهررجب 479 هـ= 23 من أكتوبر 1086 م، وبعدها بما يقارب الثلاثة أشهر ماتكمدًا وحزنًا "ألفونسو السادس" قائد النصارى في هذه المعركة بعد تلكالهزيمة الساحقة التي نالته، والتي راح ضحيتها تقريبًا كل الجيش الصليبي،وبترت فيها ساقُه.
وقبل موته استخلف ألفونسو السادس ابنهعلى الحكم، ومع أن الاستخلاف كان سريعا إلا أن النصارى لم يستطيعوا أنيقيموا لهم قوة لمدة عشرين سنة تالية أو أكثر من ذلك؛ حيث لم تحدث مواقعبين المسلمين وبين النصارى إلا بعد سنة خمسمائة من الهجرة، أي بعد حوالياثنتين وعشرين سنة من الزلاقة.
وعلى الجانب الآخر فقد ظل يوسف بنتاشفين رحمه الله في الحكم حتى وفاته سنة خمسمائة من الهجرة عن مائة عامكاملة، وقد استُخلف على دولة المرابطين من بعده ابنُه عليّ بن يوسف بنتاشفين.
حاولالمرابطون بعد دخولهم الأندلس تحرير الأراضي الأندلسية التي أُخذت منالمسلمين على مدار السنوات السابقة، فحاربوا في أكثر من جبهة، واستطاعواأن يحرروا "سرقسطة" في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس ويضموها إلى بلادالمسلمين، وقد اقتربت حدود دولة المرابطين من فرنسا.
كما حاولوا كثيرا تحرير "طُلَيْطِلة" (وكانت كما ذكرنا من قبل أنّها من أكثر وأشد مدن الأندلس حصانة علىالإطلاق) لكنهم فشلوا في هذا الأمر وإن كانوا قد أخذوا معظم القرى والمدنالتي حولها.
المرابطون ومواصلة الانتصارات:
بعد موت يوسف بن تاشفين بعام واحد، وفيسنة 501 هـ= 1107 م وبعد ما يقرب من اثنتين وعشرين سنة من الزلاقة، تدورواحدة من أضخم المواقع بين المسلمين وبين النصارى، وهي التي سميت فيالتاريخ بموقعة أقليش، وقد تولى القيادة فيها على المسلمين عليّ بن يوسفبن تاشفين ( 477 - 537 هـ= 1084 - 1143م) وتولى القيادة على الصليبيين ابنألفونسو السادس، وانتصر المسلمون أيضًا انتصارًا ساحقًا في هذه الموقعة،وقُتل من النصارى ثلاثة وعشرون ألفًا.
توالت انتصاراتُ المسلمين بعد هذهالمعركة، ففي عام 509 هـ= 1115 م استطاع المسلمون أن يفتحوا جزر البليار،تلك التي كانت قد سقطت من جديد في عهد ملوك الطوائف، وقد أصبح المسلمونيسيطرون على جزء كبير من أراضي الأندلس تحت اسم دولة المرابطين.
لقد مرت سياسة المرابطين في الأندلس بمراحل ثلاث:
-1 مرحلة التدخل من أجل الجهاد وإنقاذ المسلمين، وقد انتهت بانسحاب المرابطين بمجرد انتصار الزلاقة.
- 2مرحلة الحذر من ملوك الطوائف، بعدأن ظل وضعهم وضع التنافر والتحاسد والتباغض، ولم يفكروا في الاندماج فيدولة واحد، بل فضل بعضهم التقرّب إلى الأعداء للكيد ببعضهم.
- 3مرحلة ضم الأندلس إلى المغرب، فوضعوا حدًا لمهزلة ملوك الطوائف.)) الصلابي - الجوهر الثمين بمعرفة دولة المرابطين 136
وفي سنة 512 هـ= 1118 م تحدث في داخلبلاد المغرب وفي عقر دار المرابطين ثورة تؤدي بأثر سلبي إلى هزيمتينمتتاليتين لهم في بلاد الأندلس، كانت الأولى هزيمة قاتندة، والثانية هزيمةالقُليّعة.
المرابطون الهزيمة والانحدار.. وقفة متأنية
على إثر قيام ثورة في المغرب في عقردار المرابطين، وعلى إثر هزيمتين متتاليتين لهم في الأندلس من قِبلالنصارى، يحق لنا أن نتساءل: لماذا تقوم الثورة في هذا الوقت في دولةالمرابطين؟! ولماذا هذا الانحدار وتلك الهزائم المتتالية؟!
وفي تحليلٍ موضوعيّ لهذه الأحداث نعودبالتاريخ إلى بداية نشأة دولة المرابطين وقيامها، ففي سنة 440 هـ= 1048 محيث قَدِم الشيخ عبد الله بن ياسين، ظلت الأمور بعده تتدرج ببطء حتى دخلأبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله مع الشيخ عبد الله بن ياسين وحدثتانفراجة قليلة للمسلمين كانت غير متوقعة في ذلك الوقت، حدث بعدها انتشاربطيء ثم انتشار سريع، ثم فت
وفي سنة 445هـ= 1053 م يحدث ما هو متوقع وليس بغريب عن سنن الله سبحانه وتعالى فكماعهدنا أن من سنن الله سبحانه وتعالى أن يتقدم المسلمون ببطء في سلّمالارتفاع والعلو، ثم يفتح الله عليهم بشيء لم يكونوايتوقعونه،وكما حدث للمسلمين - كما ذكرنا - في عهد عبد الرحمن الناصر من دخول سرقسطةوموت عمر بن حفصون، أيضا في هذه البلاد تحدث انفراجة كبيرة، ويقتنع بفكرةالشيخ عبد الله بن ياسين وجماعته من شباب قبيلة جُدالةيحيى بن عمر اللمتوني ( ت 447 هـ= 1055 م )زعيم ثاني أكبر قبيلتين منقبائل صنهاجة وهي قبيلة لمتونة - القبيلة الأولى هي جُدالة كما ذكرنا -.
فدخل فيجماعة المرابطين، وعلى الفور وكما فعل الصحابي الجليل سعد بن معاذ رضيالله عنه حين دخل الإسلام وذهب إلى قومه وكان سيدًا عليهم وقال لهم: إنكلام رجالكم ونسائكم وأطفالكم عليّ حرام، حتى تشهدوا أنه لا إله إلاالله وأنمحمدًا رسول الله، قام يحيى بن عمر اللمتوني وفعل الأمر نفسه، وذهب إلىقومه وأتى بهم ودخلوا مع الشيخ عبد الله بن ياسين في جماعته، وأصبحالثلاثمائة وألف سبعةَ آلافٍ في يوم وليلة، مسلمون كما ينبغي أن يكونالإسلام.
وفي مثاللحسن الختام وبعد قليل من دخول قبيلة لَمْتُونة في جماعة المرابطين يموتزعيمهم الذي دلّهم على طريق الهداية الشيخ يحيى بن عمر اللمتوني ( 447 هـ= 1055 م)، ثم يتولى من بعده زعامة القبيلةالشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني ( 480 هـ= 1087 م ).
دخل الشيخأبو بكر بن عمر اللمتوني بحماسة شديدة مع الشيخ عبد الله بن ياسين، وبدأأمرهم يقوى وأعدادهم تزداد، وبدأ المرابطون يصلون إلى أماكن أوسع حولالمنطقة التي كانوا فيها في شمال السنغال، فبدءوا يتوسعون حتى وصلت حدودهممن شمال السنغال إلى جنوب موريتانيا، وأدخلوا معهم جُدالة، فأصبحت جُدالةولَمْتُونة وهما القبيلتان الموجودتان في شمال السنغال وجنوب موريتانياجماعة واحدةً تمثّل جماعة المرابطين.
استشهاد الشيخ المؤسس المجاهد :
أما الشيخ "عبد الله بن ياسين" ففي إحدى جولاته وبينما يأمر بالمعروف وينهى عنالمنكر في إحدى القبائل، حاربوهوقاتلوه حتىاستشهد رحمه الله سنة 451 هـ= 1059 م بعد أن أمضى أحد عشر عامًا من تربيةالرجال على الجهاد والفقه الصحيح لمعاني الإسلام العظيمة، استُشهد رحمهالله وقد ترك اثنا عشر ألف مجاهد قد تربوا على منهج سول الله صلى اللهعليه وسلم وصحابته الكرام والسلف الصالح.
أبو بكر بن عمر اللمتوني وزعامة دولةالمرابطين :
بعد الشيخ "عبد الله بن ياسين" يتولّى الشيخ "أبو بكر بن عمر اللمتوني" ( 480 هـ= 1087 م ) زعامة جماعة المرابطين، وفي خلال سنتين من زعامته لهذه الجماعةالناشئة يكون قد ظهر في التاريخ ما يُعرف بدويلة المرابطين، وأرضها آنذاكشمال السنغال وجنوب موريتانيا، وهي بعد لا تكاد تُرى على خريطة العالم.
وبعد سنتينمن تولّي الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني زعامة المرابطين، وفي سنة 453 هـ= 1061 م يسمع بخلاف قد نشب بين المسلمين في جنوب السنغال في منطقة بعيدةتمامًا عن دويلة المرابطين، ولعلمه أن الخلاف شر وأنه لو استشرى بين الناسفلن يكون هناك مجال للدعوة، نزل بعجالة ليحلّ هذا الخلاف رغم أن الناسليسوا في جماعته وليسوا من قبيلته، لكنه وبحكمة شديدة يعلم أنه الحق ولابد له من قوة تحميه.
وفي السنةالمذكورة كان قد وصل تعداد المرابطين قرابة الأربعة عشر ألفا، فأخذ نصفهموجاب أعماق السنغال في جنوبها ليحل الخلاف بين المتصارعين هناك، تاركًازعامة المرابطين لابن عمه يوسف بن تاشفين (410 - 500 هـ= 1019 - 1106 م ) رحمه الله.
يستطيع أبوبكر بن عمر اللمتوني أن يحل الخلاف الذي حدث في جنوب السنغال، لكنه يفاجأبشيء عجيب، فقد وجد في جنوب السنغال وبجانب هذه القبائل المتصارعة قبائلأخرى وثنية لا تعبد الله بالكلية، وجد قبائل تعبد الأشجار والأصنام وغيرذلك، وجد قبائل لم يصل إليها الإسلام بالمرة.
حزّ ذلك فينفسه رحمه الله حيث كان قد تعلّم من الشيخ عبد الله بن ياسين أن يحمل همّالدعوة إلى الله، وأن يحمل همّ هداية الناس أجمعين حتى إن لم يكونوامسلمين، وأن يسعى إلى التغيير والإصلاح بنفسه، فأقبل الشيخ أبو بكر بن عمراللمتوني بالسبعة آلاف الذين معه يعلمونهم الإسلام ويعرفونهم دين الله،فأخذوا يتعلمون ويتعجبون: كيف لم نسمع بهذا الدين من قبل! كيف كنا بعيدينعن هذا الدين الشامل المتكامل! حيث كانوا يعيشون في أدغال أفريقيا ويفعلونأشياء عجيبة، ويعبدون أصنامًا غريبة، ولا يعرفون لهم ربًا ولا إلهًا.
وبصبرٍ شديدٍظلّ أبو بكر بن عمر اللمتوني يدعوهم إلى الإسلام، فدخل منهم جمع كثيروقاومه جمع آخر؛ ذلك لأن أهل الباطل لا بدّ وأن يحافظوا على مصالحهم، حيثأنهم مستفيدون من وجود هذه الأصنام، ومن ثَمّ فلا بدّ وأن يقاوموه،فصارعهم أيضًا والتقى معهم في حروب طويلة.
ظلّ الشيخأبو بكر بن عمر اللمتوني يتوسع في دعوته ويتنقل من قبيلة إلى قبيلة، وفي 468 هـ= 1076 م وبعد خمس عشرة سنة كاملة من تركه جنوب موريتانيا وهو زعيمعلى دويلة المرابطين، يعود رحمه الله بعد مهّمة شاقة في سبيل الله عز وجليدعو إلى الله على بصيرة، فيُدخل في دين الله ما يُدخل، ويحارب من صدالناس عن دين الله سبحانه وتعالى حتى يرده إلى الدين أو يصده عن صده.
))لقد كانأبو بكر بن عمر من أعظم قادة المرابطين، واتقاهم وأكثرهم ورعًا ودينًاوحبًا للشهادة في سبيل الله، وساهم في توحيد بلاد المغرب، ونشر الإسلام فيالصحارى القاحلة وحدود السنغال والنيجر، وجاهد القبائل الوثنية حتى خضعتوانقادت للإسلام والمسلمين، ودخل من الزنوج أعداد كبيرة في الإسلام،وساهموا في بناء دولة المرابطين الفتيّة، وشاركوا في الجهاد في بلادالأندلس وصنعوا مع إخوانهم المسلمين في دولة المرابطين حضارة متميّزة)) د. الصلابي - الجوهر الثمين بمعرفة دولة المرابطين.
يوسف بن تاشفين ومهام صعبة :
قال "الذهبي" في "سير أعلام النبلاء": كان ابن تاشفين (410 - 500 هـ= 1019 - 1106 م ) كثير العفو، مقربًا للعلماء، وكان أسمر نحيفًا، خفيف اللحية، دقيق الصوت،سائسًا، حازمًا، يخطب لخليفة العراق...
ووصفه "ابن الأثير" في "الكامل" بقوله:
كان حليمًاكريمًا، دينًا خيرًا، يحب أهل العلم والدين، ويحكّمهم في بلاده، ويبالغ فيإكرام العلماء والوقوف عند إشارتهم، وكان إذا وعظه أحدُهم، خشع عند استماعالموعظة، ولان قلبُه لها، وظهر ذلك عليه، وكان يحب العفو والصفح عن الذنوبالعظام...
منذ أن ترك الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني دويلة المرابطين في جنوب موريتانياوشمال السنغال في سنة 453هـ= 1061 موالشيخ يوسف بن تاشفين ينتظر وصوله، مرّ يوم ويومان وشهر وشهران ولم يرجع،وحين علم أنه قد توغّل في أفريقيا ما كان منه رحمه الله إلا أن بدأ ينظرفي الشمال باحثًا عمن ابتعد عن دين الله يعلّمه ويردّه إليه.
نظريوسف بن تاشفين في شمال موريتانيا (المنطقة التي تعلوه) وفي جنوب المغربالعربي فرأى من حال البربر الذين يعيشون في هذه المنطقة وبالتحديد في سنة 453 هـ= 1061 م رأى أمورًا عجبًا، هذه بعض منها:
أولًا: قبيلة غمارة:
هي من قبائلالبربر وقد وجد فيها رجلًا يُدعى حاييم بن منّ الله يَدّعي النبوة وهو منالمسلمين، والغريب أنه لم ينكر نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل قالإنه نبي على دين الإسلام، ثم أخذ يُشرّع للناس شرعًا جديدًا وهم يتبعونهفي ذلك ويظنون أن هذا هو الإسلام.
فرضحاييم بن منّ الله على قبيلته صلاتين فقط في اليوم والليلة، إحداها فيالشروق والأخرى في الغروب، وبدأ يؤلّف لهم قرآنًا بالبربرية، ووضع عنهمالوضوء، ووضع عنهم الطُّهر من الجنابة، كما وضع عنهم فريضة الحج، وحرّمعليهم أكل بيض الطيور وأحلّ لهم أكل أنثى الخنزير، وأيضا حرّم أكل السمكحتى يُذبح.
وإنهلخلط وسَفه بَيّنٌ خاصة حين يَدّعي أنّه من المسلمين، كما أنه من العجب أنيتبعه الناس على هذا الأمر ويعتقدون أن هذا هو الاسلام.
ثانيا: قبيلة برغواطة:
هيقبيلة أخرى من قبائل البربر في تلك المنطقة، على رأسها كان رجل يُدعى صالحبن طريف بن شمعون، ذلك الذي لم يكن بصالح ادّعى أيضًا النبوة، وفرض علىالناس خمس صلوات في الصباح وخمس في المساء، وفرض عليهم نفس وضوء المسلمينبالإضافة إلى غسل السُّرّة وغسل الخاصرتين، كما فرض عليهم الزواج من غيرالمسلمات فقط، وجوّز لهم الزواج بأكثر من أربعة، وأيضًا فرض عليهم تربيةالشعر للرجال في ضفائر وإلا أثموا، ومع كل هذا فقد كان يدّعي أنه منالمسلمين.
ثالثا: قبيلة زناتة:
كانت قبيلةزناته من القبائل السنيّة في المنطقة، وكانت تعرف جزءًا من الإسلام، هوجانب العبادات وأمور العقيدة، فقد كانوا يصلون كما ينبغي أن تكون الصلاة،ويزكون كما يجب أن تكون الزكاة، لكنهم كانوا يسلبون وينهبون مَنْ حولهم،والقوي فيهم يأكل الضعيف، فَصَلُوا الدين تماما عن أمور الدنيا وسياسةالحياة العامة، فلم يكن الدين عندهم إلا صلاة وصيام وحج، وفي غير ذلك منالمعاملات افعل ما بدا لك ولا حرج.
كان من هذاالقبيل الكثير والكثير الذي يكاد يكون قد مرق من الدين بالكلية، وقد كانتهناك قبيلة أخرى تعبد الكبش وتتقرب به إلى رب العالمين، وبالتحديد في جنوبالمغرب، تلك البلاد التي فتحها عقبة بن نافع ثم موسى بن نصير رضي اللهعنهما.
يوسف بن تاشفين وصناعة النصر والحضارة
شق ذلك الوضعكثيرًا على يوسف بن تاشفين رحمه الله فأخذ جيشه وانطلق إلى الشمال ليدعوالناس إلى الإسلام، دخل معه بعضهم لكن الغالب قاومه وحاربه، فحاربه حاييمبن منّ الله، وحاربه صالح بن طريف، وحاربته كل القبائل الأخرى في المنطقة،حتى حاربته قبيلة زناتة السنية، فحاربهم بالسبعة آلاف رجل الذين تركهم معهأبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله، وبمرور الأيام بدأ الناس يتعلمون منهالإسلام ويدخلون في جماعته المجاهدة.
وبعد رجوعالشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني في سنة 468 هـ= 1076 م وبعد خمس عشرة سنةمن الدعوة - كما ذكرت - في جنوب السنغال وأدغال أفريقيا، يرى يوسف بنتاشفين رحمه الله الذي كان قد تركه فقط على شمال السنغال وجنوب موريتانيافي سنة 453 هـ= 1061 م يراه أميرًا على: السنغال بكاملها، وموريتانيابكاملها، والمغرب بكاملها، والجزائر بكاملها، وتونس بكاملها، وعلى جيش يصلإلى مائة ألف فارس غير الرجالة، يرفعون راية واحدة ويحملون اسم المرابطين.
وجد أبو بكربن عمر اللمتوني كذلك أن هناك مدينة قد أُسست على التقوى لم تكن على الأرضمطلقا قبل أن يغادر، وتلك هي مدينة "مراكش"، والتي أسسها الأمير يوسف بنتاشفين، وكان أول بناء له فيها هو المسجد الذي بناه بالطين والطوب اللبن،تمامًا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يحمل بنفسه الطين معالناس تشبهًا أيضًا بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو الأمير على مائة ألففارس.
وكذلك وجدالشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني رجلًا قد أسس حضارة لم تُعرف في المنطقةمنذ سنوات وسنوات، ثم هو بعد ذلك يراه زاهدا متقشفًا ورعًا تقيًا، عالمًابدينه طائعًا لربه، فقام الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني بعمل لم يحدث إلافي تاريخ المسلمين فقط، حيث قال ليوسف بن تاشفين: أنت أحق بالحكم مني، أنتالأمير، فإذا كنتُ قد استخلفتُك لأجلٍ حتى أعود فإنك تستحق الآن أن تكونأميرًا على هذه البلاد، أنت تستطيع أن تجمع الناس، وتستطيع أن تملك البلادوتنشر الإسلام أكثر من ذلك، أما أنا فقد ذقت حلاوة دخول الناس في الإسلام،فسأعود مرة أخرى إلى أدغال أفريقيا أدعو إلى الله هناك.
أبو بكر بن عمر اللمتوني رجل الجهاد والدعوة :
نزل الشيخأبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله مرة أخرى إلى أدغال أفريقيا يدعو منجديد، فأدخل الإسلام في غينيا بيساو جنوب السنغال، وفي سيراليون، وفي ساحلالعاج، وفي مالي، وفي بوركينا فاسو، وفي النيجر، وفي غانا، وفي داهومي،وفي توجو، وفي نيجريا وكان هذا هو الدخول الثاني للإسلام في نيجريا؛ حيثدخلها قبل ذلك بقرون، وفي الكاميرون، وفي أفريقيا الوسطى، وفي الجابون.
فكانت أكثرمن خمس عشرة دولة أفريقية قد دخلها الإسلام على يدِ هذا المجاهد البطلالشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله هذا الرجل الذي كان إذا دعا إلىالجهاد في سبيل الله - كما يذكر ابن كثير في البداية والنهاية - كان يقومله خمسمائة ألف مقاتل، أي نصف مليون من المقاتلين الأشداء غير من لايقومون من النساء والأطفال، وغير بقية الشعوب في هذه البلاد من أعداد لاتحصى قد هداها الله على يديه.
وما من شكأنه كلما صلى رجل صلاة في النيجر أو في مالي أو في نيجريا أو في غانا،كلما صلى رجل صلاة هناك، وكلما فعل أحد منهم من الخير شيئا أُضيف إلىحسنات الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني ومن معه رحمهم الله.
قالالحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: "أبو بكر بن عمر أمير الملثمين كانفي أرض فرغانة، اتفق له من الناموس ما لم يتفق لغيره من الملوك، كان يركبمعه إذا سار لقتال عدو خمسمائة ألف مقاتل، كان يعتقد طاعته، وكان مع هذايقيم الحدود ويحفظ محارم الاسلام، ويحوط الدين ويسير في الناس سيرة شرعية،مع صحة اعتقاده ودينه، وموالاة الدولة العباسية، أصابته نشابة في بعضغزواته في حلقه فقتلته..."
ها هو رحمهالله وبعد حياة طويلة متجردة لله سبحانه وتعالى يستشهد في إحدى فتوحاته فيسنة 480 هـ= 1087 م، وما استمتع بملكٍ قط بل كان يغزو في كل عام مرتين،يفتح البلاد ويعلّم الناس الإسلام، لتصبح دولة المرابطين قبل استشهادهرحمه الله ومنذ سنة 478 هـ= 1085 م متربعة على خريطة العالم ممتدة من تونسفي الشمال إلى الجابون في وسط أفريقيا، وهي تملك أكثر من ثلث مساحةأفريقيا.
لذلك حين قرأ "ألفونسو السادس" رد "المعتمد على الله بن عباد" أمير إشبيلية المحاصرة منقِبل الأول: لأروحنّ لك بمروحة من المرابطين، علم أنه سيواجه ثلث أفريقيا،وعلم أنه سيقابل أقوامًا عاشوا على الجهاد سنوات وسنوات، فقام من توّهبفكّ الحصار ثم الرحيل.
دولة المرابطين ويوسف بن تاشفين أمير المسلمين وناصر الدين :
كانت بدايةحديثنا عن تاريخ المرابطين هو سنة 440 هـ= 1048 م وكانت البداية برجل واحدفقط هو الشيخ عبد الله بن ياسين، ثم كان الصبر والتربية المتأنية فيالدعوة إلى الله على النهج الصحيح القويم ليصل عدد المرابطين وينتشرونبهذا الحجم الذي أشرنا إليه، والذي يمثّل الآن أكثر من عشرين دولة أفريقية.
فقط كان ذلكبعد ثمان وثلاثين سنة، وتحديدًا في سنة 478 هـ= 1085م، ويصبح يوسف بنتاشفين رحمه الله زعيم هذه الدولة العظيمة، ويسمي نفسه: أمير المسلمينوناصر الدين، وحين سُئِل لماذا لا تتسمى بأمير المؤمنين؟ أجاب: هذا شرف لاأدّعيه، هذا شرف يخصّ العباسيين وأنا رجلهم في هذا المكان.
كانالعباسيون في هذه الفترة لا يملكون سوى بغداد فقط، وكان يوسف بن تاشفينيريد للمسلمين أن يكونوا تحت راية واحدة، ولم يُرِد رحمه الله أن يشق عصاالخلافة، ولا أن ينقلب على خليفة المسلمين، وكان يتمنى أن لو استطاع أنيضم قوته إلى قوة الخليفة العباسي هناك، ويصبح رجلًا من رجاله في هذهالبلاد فقال مجمّعا مؤمّلا: وأنا رجلهم في هذا المكان، وهذا هو الفقهالصحيح والفهم الشامل للإسلام...
يوسف بن تاشفين ووفد الأندلس:
في سنة 478 هـ= 1085م وفي مراكش يستقبل يوسف بن تاشفين الوفد الذي جاء من قِبل بعض ملوكالطوائف يطلبون العون والمساعدة في وقف وصدّ هجمات النصارى عليهم، وإذا بهرحمه الله يتشوّق لمثل ما يطلبون، حيث الجهاد في سبيل الله ومحاربةالنصارى، فيالها من نعمة، ويالها من أمنية.
ما كان منه رحمه الله إلا أن انطلق معهموبنحو سبعة آلاف فقط من المجاهدين،رغم أن قوته في الشمال الأفريقي مائة ألف مقاتل، وكان لديه في الجنوب خمسمائة ألف،وقد كان هذا ملمح ذكاءٍ منه؛ إذ لم يكن رحمه الله وهو القائد المحنك ليخرجويلقِي بكل قواته في الأندلس، ويتحرك بعشوائية تاركًا وراءه هذه المساحاتالشاسعة في شمال وجنوب أفريقيا بلا حراسة ولا حماية، ومن ثَمّ فقد رأى أنيظلّ أحد الجيوش رابضًا في تونس وآخر في الجزائر ومثله في المغرب وهكذا فيكل البلاد الإفريقيه التي فُتحت.
أعدّ العدة رحمهالله وجهّز السفن، وبينما يعبر مضيق جبل طارق، وفي وسطه يهيج البحر وترتفعالأمواج وتكاد السفن أن تغرق، وكما كان قائدًا يقف هنا قدوة وإمامًا،خاشعًا ذليلًا، يرفع يديه إلى السماء ويقول:
اللهم إن كنت تعلمأن في عبورنا هذا البحر خيرا لنا وللمسلمين فسهّل علينا عبوره، وإن كنتتعلم غير ذلك فصعّبه علينا حتى لا نعبره، فتسكن الريح، ويعبر الجيش، وعندأول وصول له، والوفود تنتظره ليستقبلونه استقبال الفاتحين، يسجد لله شكرًاأن مكنّه من العبور، وأن اختاره ليكون جنديًا من جنوده سبحانه وتعالىومجاهدًا في سبيله.
يوسف بن تاشفين وقدوة كانت قد افتقدت وغُيّبت:
يدخل يوسف بنتاشفين أرض الأندلس، ويدخل إلى إشبيلية والناس يستقبلونه استقبالالفاتحين، ثم يعبر في اتجاه الشمال إلى ناحية مملكة "قشتالة" النصرانية،تلك التي أثارت الرعب في قلوب كل الأمراء الموجودين في بلاد الأندلس فيذلك الوقت، يتجه إليها في عزّة نفس ورباطة جأش منقطعة النظير بسبعة آلاففقط من الرجال.
كان الأندلسيونومنذ أكثر من سبعين سنة، في ذلّ وهوان وخنوع يدفعون الجزية للنصارى،وحينما شاهدوا هؤلاء الرجال الذين ما ألِفوا الذلّ يومًا، وما عرفوا غيرالرباط في سبيل الله، حينما شاهدوهم يعبرون القفار ويتخطون البحار حاملينأرواحهم على أكفّهم من أجل عزِّ الإسلام وإعلاء كلمة الله ورفعة المسلمين،حينما شاهدوهم على هذه الحال تبدّلوا كثيرًا، وتاقت نفوسهم إلى مثلأفعالهم، فأقبلوا على الجهاد، وأذّنوا بحي على خير العمل.
قال المقري في نفحالطيب: واجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية، وكان المعتمد قد جمع عساكرهأيضاً، وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير، وقصده المطوعة من سائر بلاد الأندلس،ووصلت الأخبار إلى الأذفونش فجمع عساكره، وحشد جنوده، وسار من طليطلة...
وبدأ يلحق بركبيوسف بن تاشفين الرجل من قرطبة والرجل من إشبيلية، وآخر من بطليوس، وهكذاحتى وصل الجيش إلى الزَّلَّاقة في شمال البلاد الإسلامية على حدود "قشتالة"،وعدده يربو على الثلاثين ألف رجل.
بين جيش المسلمين وجيش النصارى:
تحرّك الثلاثون ألفرجل بقيادة يوسف بن تاشفين ليصلوا إلى الزَّلَّاقَة، وهو ذلك المكان الذيدارت فيه موقعة هي من أشهر المواقع الإسلاميه في التاريخ، وذلك المكانالذي لم يكن يُعرف بهذا الاسم قبل ذلك، لكنه اشتهر به بعد الموقعة، وسنعرفقريبًا لماذا سُمَّيتْ بالزّلاقة.
في الوقت الذي يصلفيه يوسف بن تاشفين وجيشه إلى الزلاقة يصله نبأ مفزع من بلاده بالمغرب،إنه يحمل مصيبة قد حلت به وبداره، فابنه الأكبر قد مات، لكنه ورغم ذلك فلمتفتّ هذه المصيبة في عضدِه، ولم يفكر لحظة في الرجوع، ولم يرض أن يرسلقائدًا من قوّاده ويرجع هو، بل ذهب وهو الأمير على ثلث أفريقيا وأخذ معهأكبر قوّاد المرابطين وهو داود بن عائشة، وأرسل وزيره ليحكم البلاد فيغيابه.
كان النصارى قداستعدّوا لقدوم يوسف بن تاشفين بستين ألفًا من المقاتلين، على رأسهم "ألفونسو السادس" بعد أن جاءه العون من فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وألمانيا،وبعد أن أخذ وعودًا من البابا وصكوكًا بالغفران لكل من شارك في هذه الحربضد المسلمين.
قدم "ألفونسوالسادس" يحمل الصلبان وصور المسيح وهو يقول: بهذا الجيش أقاتل الجن والإنسوأقاتل ملائكة السماء وأقاتل محمدًا وصحبه، فهو يعرف تمامًا أنها حربصليبية ضد الإسلام.
الرسائل والحرب الإعلامية
وكعادة الجيوش في ذلك الوقت في تبادل الرسائل،أرسليوسف بن تاشفين برسالة إلى "ألفونسو السادس" يقول له فيها: بلغنا أنك دعوتأن يكون لك سفنًا تعبر بها إلينا، فقد عبرنا إليك، وستعلم عاقبة دعائك،وما دعاء الكافرين إلا في ضلال، وإني أعرض عليك الإسلام، أو الجزية عن يدوأنت صاغر، أو الحرب، ولا أؤجلك إلا لثلاث.
تسلم "ألفونسوالسادس" الرسالة وما إن قرأها حتى اشتاط غضبًا، إذ كيف يدفع الجزية وقدأخذها هو من المسلمين، ومن قبله آباؤه وأجداده؟! فأرسل ليوسف بن تاشفين متوعدًا ومهددًا: فإني اخترت الحرب، فما ردّك على ذلك؟ وعلى الفور أخذيوسف بن تاشفين الرسالة، وقلبها وكتب على ظهرها: الجواب ما تراه بعينك لا ما تسمعه بأذنك، والسلام على من اتبع الهدى
(الله اكبر)
فلما وقف "ألفونسو" على هذا الجواب ارتاع له، وعلم أنه بُلي برجل لا طاقة له به.
قال صاحب "الروضالمعطار في خبر الأقطار": ولما تحقق ابن فرذلند - ألفونسو السادس - جوازيوسف استنفر جميع أهل بلاده وما يليها وما وراءها، ورفع القسيسون والرهبانوالأساقفة صلبانهم ونشروا أناجيلهم، فاجتمع له من الجلالقة والافرنجة ومايليهم ما لا يحصى عدده، وجعل يصغي إلى أنباء المسلمين متغيظاً على ابنعباد حانقاً ذلك عليه متوعداً له، وجواسيس كل فريق تتردد بينالجميع، وبعث - ألفونسو السادس - إلى ابن عباد أن صاحبكم يوسف قد تعنى منبلاد بعيدة وخاض البحور، وأنا أكفيه العناء فيما بقي، ولا أكلفكم تعباً،أنا أمضي إليه وألقاكم في بلادكم رفقاً بكم وتوفيراً عليكم، وقال لأهل ودهووزرائه:
إني رأيت إنأمكنتهم من الدخول إلى بلادي فناجزوني بين جدرها ربما كانت الدائرة عليفيكتسحون البلاد ويحصدون من فيها في غداة واحدة، لكن أجعل يومهم معي فيحوز بلادهم، فان كانت علي اكتفوا بما نالوه ولم يجعلوا الدروب وراءهم إلابعد أهبة أخرى، فيكون في ذلك صون لبلادي وجبر لمكاسري، وإن كانت الدائرةعليهم كان مني فيهم وفي بلادهم ما خفت أنا أن يكونمنهم في وفي بلاديإذا ناجزوني في وسطها. ثم برز بالمختار من أنجاد جموعه على باب دربه وتركبقية جموعه خلفه، وقال حين نظر إلى ما اختاره من جموعه: بهؤلاء أقاتل الجنوالإنس وملائكة السماء، فالمقلل يقول: كان هؤلاء المختارون من أجنادهأربعين ألف دارع، ولا بد لمن هذه صفته أن يتبعه واحد واثنان، وأما النصارىفيعجبون ممن يزعم ذلك ويقوله، واتفق الكل أن عدة المسلمين كانت أقل من عدةالمشركين.
ورأى - ألفونسوالسادس - في نومه كأنه راكب على فيل يضرب نقيرة طبلٍ فهالته رؤياه وسألعنها القسوس والرهبان فلم يجبه أحد، ودس يهودياً عن من يعلم تأويلها منالمسلمين فدل على عابر فقصها عليه ونسبها إلى نفسه، فقال له العابر: كذبت،ما هذه الرؤيا لك، ولا بد أن تخبرني عن صاحبها وإلا لم أعبرها لك، فقال: اكتم ذلك، هو الفنش بن فرذلند - ألفونسو - فقال العابر: قد علمت أنهارؤياه، ولا ينبغي أن تكون لغيره وهي تدل على بلاء عظيم ومصيبة فادحة تؤذنبصلبه عما قريب، أما الفيل فقد قال الله تعالى: " ألم تر كيف فعل ربكبأصحاب الفيل " وأما ضرب النقيرة فقد قال الله تعالى: " فإذا نقر فيالناقور "، فانصرف اليهودي إلى ألفونسو السادس وجمجم له ولم يفسرها له...
وفي محاولة ماكرةلخديعة المسلمين أرسل "ألفونسو السادس" يحدد يوم المعركة، فأرسل أن غدًاالجمعة، وهو عيد من أعياد المسلمين ونحن لا نقاتل في أعياد المسلمين، وأنالسبت عيد اليهود وفي جيشنا كثير منهم، وأما الأحد فهو عيدنا، فلنؤجلالقتال حتى يوم الإثنين.
استلم يوسف بنتاشفين الرسالة، وبوعي تام وبقيادة تعلم خبايا الحروب وفنون مقدماتها لميُعلِم جيشه هذه الرسالة، إذ إنه يعلم أن هذا الرجل مخادع، كيف وهم يكذبونعلى الله فيكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، وكيف واللهقال فيهم: [أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ] {البقرة:100}.
تجهيز الجيش ورؤيا ابن رمُيْلَة:
بحذر تام لم يلتفتيوسف بن تاشفين إلى ما جاء في رسالة ألفونسو السادس، وقام بتعبئة الجيشوتجهيزه يوم الخميس، ووضعه على أتمّ الاستعداد، وفي ليلة الجمعة كان يناممع الجيش شيخ كبير من شيوخ المالكية في قرطبة، وهو ابن رُمَيْلَة ( الفقيهالناسك أبو العباس أحمد ابن رميلة القرطبي ) قال ابن بشكوال في الصلة أحمدبن محمد بن فرج الأنصاري يعرف: بابن رميلة من أهل قرطبة، يكنى: أباالعباس. كان معتنياً بالعلم، وصحبة الشيوخ وله شعر حسن في الزهد. وكانكثير الصدقة وفعل المعروف. قال لي شيخنا أبو محمد بن عتاب رحمه الله: كانأبو العباس هذا من أهل العلم والورع والفضل والدين، واستشهد بالزلاقةمقبلاً غير مدبر سنة تسع وسبعين وأربع مائة.... هـ
فلم تكن مهمّةالشيخ يومها هي مجرد الجلوس في المسجد أو إلقاء الدروس أو تعليم القرآنفقط، فقد كان هذا الشيخ يفقه أمور دينه ويعلم أن هذا الجهاد هو ذروة سنامهذا الدين.
في هذه الليلة يرى ابن رُمَيْلَة هذا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: يا ابن رمُيْلَة، إنكم منصورون، وإنك ملاقين.
يستيقظ ابنُرُمَيْلَة من نومه وهو الذي يعلم أن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم فيالمنام حق؛ لأن الشيطان لا يتمثل به صلى الله عليه وسلم ففي البخاري بسندهعن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُعَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّالشَّيْطَانَ لَا يَتَخَيَّلُ بِي وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْسِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ"
يقوم الشيخ فرحًامسرورًا، لا يستطيع أن يملك نفسه، فقد بشّره رسول الله صلى الله عليهوسلم، وسيموت في سبيل الله، فالْحُسْنَيَيْن أمام عينيه، نصر للمؤمنينوشهادة تناله، فيالها من فرحة، وياله من أجر.
وعلى الفور يذهبابن رُمَيْلَة رحمه الله في جنح الليل فيوقظ يوسف بن تاشفين، ويوقظالمعتمد على الله بن عبّاد الذي كان يقود وحدة كبيرة من قوات الأندلس،ويوقظ المتوكل بن الأفطس وعبد الله بن بلقين، ويوقظ كل قوّاد الجيش، ويقصّعليهم رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هزّت تلك الرؤيايوسف بن تاشفين وكلّ قواد الجيش، وقاموا من شدة فرحهم وفي منتصف الليلوأيقظوا الجيش كله على صوت: رأى ابن رُمَيْلَة رسول الله صلى الله عليهوسلم يقول له: إنكم لمنصورون وإنك ملاقين.
وفي لحظة لميتذوقوها منذ سنوات وسنوات في أرض الأندلس، يعيش الجيش كله أفضل لحظاتالسعادة، وتتوق النفوس إلى الشهادة، ويأمر يوسف بن تاشفين بقراءة سورةالأنفال، ويأمر الخطباء بتحفيز الناس على الجهاد، ويمرّ هو بنفسه رحمهالله على الفصائل ينادي ويقول: طوبى لمن أحرز الشهادة، ومن بقي فله الأجروالغنيمة.
قال في الروض المعطار: ووعظ يوسف وابن عباد أصحابهما، وقام الفقهاء والعباد يعظون الناس ويحضونهم على الصبر ويحذرونهم الفرار...
مخابرات ابن عباد تراقب الموقع:
ولما ازدلف بعضهمإلى بعض أذكى المعتمد عيونه في محلات الصحراويين خوفاً عليهم من مكايد ابنفرذلند إذ هم غرباء لا علم لهم بالبلاد، وجعل يتولى ذلك بنفسه حتى قيل إنالرجل من الصحراويين - المرابطين - كان يخرج عن طرق محلاتهم لبعض شأنه أولقضاء حاجته فيجد ابن عباد بنفسه مطيفاً بالمحلة بعد ترتيب الكراديس - الكُرْدُوْسُ الخَيْلُ العَظِيْمَةُ - من خيل على أفواه طرق محلاتهم، فلايكاد الخارج منهم عن المحلة يخطئ ذلك من لقاء ابن عباد لكثرة تطوافهعليهم...
المخابرات الإسلامية تنقل الأخبار بسرعة ودقة
جاء في الليلفارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة "ألفونسو" وسمعاضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة ثم تلاحق بقية الطلائع محققين بتحرك ابنفرذلند - ألفونسو - ثم جاءت الجواسيس من داخل محلات ابن فرذلند يقولون: استرقنا السمع الساعة، فسمعنا ابن فرذلند يقول لأصحابه: ابن عباد مسعر هذهالحروب، وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل حفاظ وذوي بصائر في الجهاد، غيرعارفين بهذه البلاد وإنما قادهم ابن عباد، فاقصدوه واهجموا عليه، وإنانكشف لكم هان عليكم هؤلاء الصحراويون بعده ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إنصدقتموه الحملة. وعند ذلك بعث ابن عباد كاتبه أبا بكر بن القصيرة إلى يوسفيعرفه بإقبال ابن فرذلند ويستحث نصرته، فمضى ابن القصيرة يطوي المحلات حتىجاء يوسف بن تاشفين فعرفه جلية الأمر...
الجيش الإسلامي وخطة الإعداد والهجوم:
بعد ترتيب الجيش وصلاة فجر يوم الجمعةالموافق 12 من شهر رجب 479 هـ= 23 من أكتوبر 1086 م، لم تكن مفاجأة ليوسفبن تاشفين أن يخالف "ألفونسو السادس" طبيعته وينقض عهده ويبدأ بالهجوم فيذلك اليوم،إذ الغدر والخيانة ومخالفة العهود هو الأصلعندهم،وهو ما يجب أن نعلمه جميعًا.
أما المفاجئة فأصابت "ألفونسو السادس" الذي وجد الجيش الإسلامي على أتمّ تعبئة وأفضل استعداد، وبخطة محكمة، كانيوسف بن تاشفين قد قسّم الجيش إلى نصفين، نصف أمامي ونصف خلفي، أما النصفالأمامي فقد طلب المعتمد على الله بن عبّاد أن يكون على قيادته على من معهمن الأندلسيين، يريد بذلك أن يكون بين المسلمين وبين النصارى، يريد أنيغسل عار السنين السالفة، يريد أن يمحو الذل الذي أذاقه إياه ألفونسوالسادس، إنه يريد أن يتلقى الضربة الأولى من جيش النصارى.
في نصف عدد الجيش، وفي خمسة عشر ألف مقاتل يقف المعتمد على الله بن عبّاد فيمقدمة الجيش ومن خلفه داود بن عائشة كبير قوّاد المرابطين، أما النصفالثاني أو الجيش الخلفي ففيه يوسف بن تاشفين رحمه الله يختفي خلف أحدالتلال البعيدة تمامًا عن أرض المعركة، ويضم أيضًا خمسة عشر ألف مقاتل،ويستبقي من الجيش الثاني أو الخلفي الذي فيه يوسف بن تاشفين أربعة آلافمقاتل، فيبعدهم أكثر عن هذا الجيش الخلفي، وقد كان هؤلاء الأربعة آلاف منرجال السودان المهرة، يحملون السيوف الهندية والرماح الطويلة، وكانوا أعظمالمحاربين في جيش المرابطين، فاستبقاهم يوسف بن تاشفين في مؤخرة الجيش.
أصبح جيش المسلمين مقسمًا إلى ثلاثفرق، الفرقة الأولى وهي المقدمة بقيادة المعتمد على الله وتضم خمسة عشرألف مقاتل، والفرقة الثانية خلف الأولى وعلى رأسها يوسف بن تاشفين وتضمأحد عشر ألف مقاتل، ومن بعيد تنتظر الفرقة الثالثة وتضمّ أربعة آلاف مقاتلهم من أمهر الرماة والمحاربين.
لم تكن خطة يوسف بن تاشفين رحمه اللهجديدة في حروب المسلمين، فقد كانت هي نفس الخطة التي استعملها خالد بنالوليد رضي الله عنه في موقعة الولجة في فتوح فارس، وهي أيضا نفس الخطةالتي استعملها النعمان بن مقرن رضي الله عنه في موقعة نهاوند في فتوح فارسأيضا، فكان رحمه الله رجلا يقرأ التاريخ ويعرف رجالاته ويعتبر بهم.
الزَّلَّاقةُ ومعركة الوجود الإسلامي في الأندلس:
لما كان يوم الجمعة الموافق 12 من شهررجب 479 هـ= 23 من أكتوبر 1086 م هجم "ألفونسو السادس" بستين ألفًا منالنصارى على الجيش الأول للمسلمين المؤلّف من خمسة عشر ألف فقط، وقد أراديوسف بن تاشفين من وراء ذلك أن تحتدم الموقعة فتُنْهك قوى الطرفين حتى لايستطيعان القتال، وكما يحدث في سباق الماراثون فيقوم هو ويتدخل بجيشهليعدل الكفة لصالح صف المسلمين.
وأمام أمواج تتلوها أمواج وأسراب تتبعها أسراب، يصبر المسلمون أمام ستين ألفا منالنصارى...
المعتمد بن عباد في قلب المعركة:
مال ألفونسو السادس على المعتمد بجموعهوأحاطوا به من كل جهة فاستحر القتل فيهم، وصبر ابن عباد صبراً لم يعهدمثله لأحد، واستبطأ يوسف وهو يلاحظ طريقه، وعضته الحرب واشتد البلاء وأبطأعليه الصحراويون، وساءت ظنون أصحابه، وانكشف بعضهم وفيهم ابنه عبد الله،وأثخن ابن عباد جراحات وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه،وجرحت يمنى يديه وطعن في أحد جانبيه وعقرت تحته ثلاثة أفراس كلما هلك واحدقدم له آخر وهو يقاسي حياض الموت يضرب يميناً وشمالاً، وتذكر في تلك الحالابناً له صغيراً كان مغرماً به، كان تركه بإشبيلية عليلاً اسمه المعلىوكنيته أبو هاشم فقال:
أبا هاشـم هشـمتني الشـفار فلله صبري لذاك الأوار
ذكرت شخيصك تحت العجاج فلم يثنـني ذكره للفرار
ثم كان أول من وافى ابن عباد من قواد ابن تاشفين، داود بن عائشة، وكان بطلاًشهماً فنفس بمجيئه عن ابن عباد...
وهناكوبعد عصر ذلك اليوم يشير يوسف بن تاشفين إلى من معه أن انزلوا وساعدواإخوانكم، وذلك بعد أن كانت قد أُنهكت قوى الطرفين من المسلمين والنصارى،وبعد طول صبر ينزل يوسف بن تاشفين بالأحد عشر مقاتلًا الذين كانوا معه وهمفي كامل قوتهم، فيحاصرون الجيش النصراني.
قسّم يوسف بن تاشفين الجيش الذي كانمعه إلى قسمين، فالأول يساعد مقدمة المسلمين، والثاني يلتفّ خلف جيشالنصارى، وكان أول فعل له خلف جيش النصارى هو أن حرّق خيامهم، وذلك حتىيعلم النصارى أن يوسف بن تاشفين ومن معه من ورائهم وهم محيطون بهم، فقدكان يعلم رحمه الله أن مثل هؤلاء الناس لا يهمهم من الدنيا إلا أن يظلواأحياء، وأن ينجوا بأنفسهم.
حين علم النصارى أن المسلمين من ورائهموأنهم محاصرون دبّت الهزيمة في قلوبهم، وبدأ الخلل يتغلغل في صفوفهم،وبالفعل بدأ الانسحاب التدريجي التكتيكي الذي يحاول أقل خسارة ممكنة، وقدالتفّ الناس حول ألفونسو السادس يحمونه، ثم حدثت خلخلة عظيمة في جيشهم.
وفي الضربة الأولى ليوسف بن تاشفين يُقتل من النصارى عشرة آلاف رجل، وفي وصفلهذا القائد في تلك المعركة يقولالمؤرخون بأن يوسف بن تاشفين وهوالأمير على ثلث إفريقيا كان في هذه الموقعة يتعرض للموت ويتعرض للشهادةولا يصيبها، يلقي بنفسه في المهالك، رحمه الله ورضي عنه وعن أمثاله.
تزداد شراسة الموقعة حتى قبيل المغرب،ثم ومن بعيد يشير يوسف بن تاشفين إلى الأربعة آلاف فارس أو الفرقة الثالثةوالأخيرة، والتي كانت من رجال السودان المهرة، فيأتون فيعملون القتل فيالنصارى ويستأصلونهم.
وتنجليالحقيقة المروّعة لأعداء الله عن قتل خمسين وخمسمائة وتسع وخمسين ألفًا منالنصارى من مجموع ستين ألفا منهم، ممن كانوا سيهزمون الإنس والجنوالملائكة، في موقعة كانت تنزلق فيها أقتاب الخيول وأرجل الفرسان من كثرةالدماء في هذه الأرض الصخرية، حتى سُمّيت من بعدها بالزلَّاقة.
وكان قد بقي من النصارى أربعمائةوخمسون فارسًا فقط، منهم ألفونسو السادس الذي نجا من الموت بساق واحدة، ثمانسحب في جنح الظلام بمن معه إلى طليطلة، وقد مات منهم في الطريق من أثرالجراح المثخنة ثلاثمائة وخمسون فارسا، وهناك دخل طليطلة بمائة فارس فقط.
فكانت الزلاقة دون مبالغة كاليرموك والقادسية...
لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا
بعد هذه المعركة جمع المسلمون منالغنائم الكثير، لكن يوسف بن تاشفين وفي صورة مشرقة ومشرّفة من صورالإخلاص والتجرد وفي درس عملي بليغ لأهل الأندلس عامة ولأمرائهم خاصة يترككل هذه الغنائم لأهل الأندلس، ويرجع في زهدٍ عجيب وورع صادق إلى بلادالمغرب، لسان حاله: [لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءًوَلَا شُكُورً] {الإنسان:9}.
قال المقري في نفح الطيب: وأقامتالعساكر بالموضع أربعة أيام، حتى جمعت الغنائم، واستؤذن في ذلك السلطانيوسف، فعفّ عنها، وآثر بها ملوك الأندلس، وعرفهم أن مقصده الجهاد والأجرالعظيم، وما عند الله في ذلك من الثواب المقيم، فلما رأت ملوك الأندلسإيثار يوسف لهم بالغنائم استكرموه، وأحبوه وشكروا له ذلك.
يعود رحمه الله إلى بلاد المغرب ليس معه إلا وعودًا منهم بالوحدة والتجمع ونبذالفرقة، والتمسك بكتاب الله وبسنة رسولهصلى الله عليه وسلم، وقد نصحهم باتباعسنة الجهاد في سبيل الله، وعاد يوسف بن تاشفين البطل الإسلامي المغواروعمره آنذاك تسع وسبعون سنة!!
كانمن الممكن له رحمه الله أن يرسل قائدا من قواده إلى أرض الأندلس ويبقى هوفي بلاد المغرب، بعيدا عن تخطي القفار وعبور البحار، وبعيدا عن ويلاتالحروب وإهلاك النفوس، وبعيدا عن أرض غريبة وأناس أغرب، لكنه رحمه اللهوهو الشيخ الكبير يتخطى تلك الصعاب ويركب فرسه ويحمل روحه بين يديه، لسانحاله: أذهب إلى أرض الجهاد لعلّي أموت في سبيل الله، شعاره هو:
إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومٍ فَلَا تَقْنَعُ بِمَا دُونَ النُّجُومِ
فَطَعْمُ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ حَقِيرٍ كَطَعْمِ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍعَظِيمٍ
المعتمد على الله بن عباد وشرف الجهاد
ولما دخل ابن عباد اشبيلية جلس للناسوهُنئ بالفتح، وقرأت القراء وقامت على رأسه الشعراء فأنشدوه، قال عبدالجليل بن وهبون: حضرت ذلك اليوم وأعددت قصيدة أنشده إياها فقرأ القارئ: [إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُاللَّهُ] {التوبة 40} فقلت: بعداً لي ولشعري، والله ما أبقت لي هذه الآية معنىأحضره وأقوم به؛ واستشهد في هذا اليوم جماعة من أعيان الناس كابن رميلةالمتقدم الذكر وقاضي مراكش أبي مروان عبد الملك المصمودي وغيرهما، وطارذكر ابن عباد بهذه الوقيعة وشهر مجده، ومالت إليه القلوب، وسالمته ملوكالطوائف، وخاطبوه جميعاً بالتهنئة، ولم يزل ملحوظاً معظماً إلى أن كان منأمره مع يوسف ما كان... الروض المعطار في خبر الأقطار – الحِميري
مصير ألفونسو السادس:
لمابلغ - ألفونسو السادس - إلى بلاده وسأل عن أبطاله وشجعانه وأصحابهم ففقدهمولم يسمع إلا نواح الثكلى عليهم، اهتمّ ولم يأكل ولم يشرب حتى هلك هماًوغمًا، فكان مصيره جهنم وبئس المصير...
صراعات ملوك الطوائف وعودة يوسف بن تاشفين من جديد:
بعد عودة يوسف بن تاشفين إلى أرضالمغرب، حدثت الصراعات بين أمراء المؤمنين الموجودين في بلاد الأندلس بسببالغنائم وتقسيم البلاد المحرّرة.
وهنا ضج علماء الأندلس وذهبوا يستنجدون بيوسف بن تاشفين من جديد، لا لتخليصهمهذه المرة من النصارى، وإنما لإنقاذهم من أمرائهم...
يتورّع يوسف بن تاشفين عن هذ الأمر، إذكيف يهجم على بلاد المسلمين وكيف يحاربهم؟! فتأتيه رحمه الله الفتاوى منكل بلاد المسلمين تحمّله مسئولية ما يحدث في بلاد الأندلس إن هو تأخرعنها، وتحذّره من ضياعها إلى الأبد، وتطلب منه أن يضمها إلى أملاكالمسلمين تحت دولة واحدة وراية واحدة، هي دولة المرابطين.
فجاءته الفتوى بذلك من بلاد الشام منأبي حامد الغزالي صاحب "إحياء علوم الدين"، وقد كان معاصرًا لهذه الأحداث،وجاءته الفتوى من أبي بكر الطرطوشي العالم المصري الكبير، وجاءته الفتوىمن كل علماء المالكية في شمال أفريقيا.
لميجد يوسف بن تاشفين إلا أن يستجيب لمطلبهم، فقام في سنة 483 هـ= 1090 موبعد مرور أربعة أعوام على موقعة الزَلَّاقة، وجهّز نفسه ودخل الأندلس.
((الواقع يقول أن ابن تاشفين لم يطمعفي الأندلس وتردد كثيرًا قبل العبور، وعف عن الغنائم بعد ذلك وتركهاللمعتمد ولأمراء الأندلس ولم يأخذ منها شيئًا، وكان عودته، ثم يعود فيالجواز الثاني بسبب اختلافات ملوك الطوائف، وتحالف بعضهم مع عدو الإسلام،وكان الجواز الثالث لوضع حد لمهزلة ملوك الطوائف، لقد آن - وباسم الإسلام - لهذه الدويلات الضعيفة المتناحرة المتحالف بعضها مع الأعداء أنتنتهي...))...الزلاقة - د. شوقي أبو خليل
يوسف بن تاشفين ودولة واحدة على المغرب والأندلس:
لم يكن دخول يوسف بن تاشفين الأندلسأمرًا سهلًا، فقد حاربه الأمراء هناك بما فيهم المعتمد على الله بن عبّاد،ذلك الرجل الذي لم يجد العزّة إلا تحت راية يوسف بن تاشفين رحمه الله قبلوبعد الزلاقة، قام المعتمد على الله بمحاربته وأنّى له أن يحارب مثله...
استعرت نار الحرب بين المرابطين وملوكالطوائف وانتهت بضم كل ممالك الأندلس لدولة المرابطين إلا "سرقسطة" التيحكمها أحمد بن هود، والذي كان كالشوكة في حلق النصارى، فقد قاومهم زمنًاطويلًا، وتراجع النصارى أمام صمود بني هود البطولي، وأظهر بنود هود مقدرةفائقة على قتال النصارى مما جعل المرابطين يحترمونهم، وتوطدت العلاقةالودية بين الأمير يوسف والأمير احمد بن هود الذي كان وفيًا في عهوده،ومخلصًُا في جهاده، وحريصًا على أمته، ورضي المرابطون ببقاء أحمد بن هودحاكمًا تابعًا لهم، وبذلك أصبحت الأندلس ولاية تابعة لدولة المرابطين،وتوارت العناصر والزعامات الهزيلة وانهار سلطان العصبيات الطائفية. الأندلس في عصر المرابطين ص 112
فاستطاع يوسف بن تاشفين أن يضمّ كلبلاد الأندلس تحت لوائه، وأن يحرّر "سرقسطة"، تلك التي كان النصارى قدأخذوها بعد أن قسّمها أميرها بين ولديه واستطاع أن يضمّها إلى بلادالمسلمين، وقد أصبح أميرًا على دولة تملك من شمال الأندلس وبالقرب منفرنسا وحتى وسط أفريقيا، دولة واحدة اسمها دولة المرابطين.
ظلّهذا الشيخ الكبير يحكم حتى سنة 500 هـ= 1106 م وكان قد بلغ من الكبرعتيًا، وتوفي رحمه الله بعد حياة حافلة بالجهاد وقد وفّى تمام المائة،منها سبع وأربعين سنة في الحكم، وكان تمام ستين سنة على ميلاد دولةالمرابطين، تلك التي أصبحت من أقوى دول العالم في ذلك الزمان.
الموقف بعد الزلاقة وقفة تحليلية:
كانت الزلاقة- كما ذكرنا- في 12 من شهررجب 479 هـ= 23 من أكتوبر 1086 م، وبعدها بما يقارب الثلاثة أشهر ماتكمدًا وحزنًا "ألفونسو السادس" قائد النصارى في هذه المعركة بعد تلكالهزيمة الساحقة التي نالته، والتي راح ضحيتها تقريبًا كل الجيش الصليبي،وبترت فيها ساقُه.
وقبل موته استخلف ألفونسو السادس ابنهعلى الحكم، ومع أن الاستخلاف كان سريعا إلا أن النصارى لم يستطيعوا أنيقيموا لهم قوة لمدة عشرين سنة تالية أو أكثر من ذلك؛ حيث لم تحدث مواقعبين المسلمين وبين النصارى إلا بعد سنة خمسمائة من الهجرة، أي بعد حوالياثنتين وعشرين سنة من الزلاقة.
وعلى الجانب الآخر فقد ظل يوسف بنتاشفين رحمه الله في الحكم حتى وفاته سنة خمسمائة من الهجرة عن مائة عامكاملة، وقد استُخلف على دولة المرابطين من بعده ابنُه عليّ بن يوسف بنتاشفين.
حاولالمرابطون بعد دخولهم الأندلس تحرير الأراضي الأندلسية التي أُخذت منالمسلمين على مدار السنوات السابقة، فحاربوا في أكثر من جبهة، واستطاعواأن يحرروا "سرقسطة" في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس ويضموها إلى بلادالمسلمين، وقد اقتربت حدود دولة المرابطين من فرنسا.
كما حاولوا كثيرا تحرير "طُلَيْطِلة" (وكانت كما ذكرنا من قبل أنّها من أكثر وأشد مدن الأندلس حصانة علىالإطلاق) لكنهم فشلوا في هذا الأمر وإن كانوا قد أخذوا معظم القرى والمدنالتي حولها.
المرابطون ومواصلة الانتصارات:
بعد موت يوسف بن تاشفين بعام واحد، وفيسنة 501 هـ= 1107 م وبعد ما يقرب من اثنتين وعشرين سنة من الزلاقة، تدورواحدة من أضخم المواقع بين المسلمين وبين النصارى، وهي التي سميت فيالتاريخ بموقعة أقليش، وقد تولى القيادة فيها على المسلمين عليّ بن يوسفبن تاشفين ( 477 - 537 هـ= 1084 - 1143م) وتولى القيادة على الصليبيين ابنألفونسو السادس، وانتصر المسلمون أيضًا انتصارًا ساحقًا في هذه الموقعة،وقُتل من النصارى ثلاثة وعشرون ألفًا.
توالت انتصاراتُ المسلمين بعد هذهالمعركة، ففي عام 509 هـ= 1115 م استطاع المسلمون أن يفتحوا جزر البليار،تلك التي كانت قد سقطت من جديد في عهد ملوك الطوائف، وقد أصبح المسلمونيسيطرون على جزء كبير من أراضي الأندلس تحت اسم دولة المرابطين.
لقد مرت سياسة المرابطين في الأندلس بمراحل ثلاث:
-1 مرحلة التدخل من أجل الجهاد وإنقاذ المسلمين، وقد انتهت بانسحاب المرابطين بمجرد انتصار الزلاقة.
- 2مرحلة الحذر من ملوك الطوائف، بعدأن ظل وضعهم وضع التنافر والتحاسد والتباغض، ولم يفكروا في الاندماج فيدولة واحد، بل فضل بعضهم التقرّب إلى الأعداء للكيد ببعضهم.
- 3مرحلة ضم الأندلس إلى المغرب، فوضعوا حدًا لمهزلة ملوك الطوائف.)) الصلابي - الجوهر الثمين بمعرفة دولة المرابطين 136
وفي سنة 512 هـ= 1118 م تحدث في داخلبلاد المغرب وفي عقر دار المرابطين ثورة تؤدي بأثر سلبي إلى هزيمتينمتتاليتين لهم في بلاد الأندلس، كانت الأولى هزيمة قاتندة، والثانية هزيمةالقُليّعة.
المرابطون الهزيمة والانحدار.. وقفة متأنية
على إثر قيام ثورة في المغرب في عقردار المرابطين، وعلى إثر هزيمتين متتاليتين لهم في الأندلس من قِبلالنصارى، يحق لنا أن نتساءل: لماذا تقوم الثورة في هذا الوقت في دولةالمرابطين؟! ولماذا هذا الانحدار وتلك الهزائم المتتالية؟!
وفي تحليلٍ موضوعيّ لهذه الأحداث نعودبالتاريخ إلى بداية نشأة دولة المرابطين وقيامها، ففي سنة 440 هـ= 1048 محيث قَدِم الشيخ عبد الله بن ياسين، ظلت الأمور بعده تتدرج ببطء حتى دخلأبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله مع الشيخ عبد الله بن ياسين وحدثتانفراجة قليلة للمسلمين كانت غير متوقعة في ذلك الوقت، حدث بعدها انتشاربطيء ثم انتشار سريع، ثم فت